معركة إدلب...انقسام متزايد بين روسيا وتركيا

12 : 08

تتابع القوات السورية تقدّمها باتجاه إدلب فيما يستمر سقوط القنابل الروسية. في الوقت نفسه، تدعو تركيا إلى إنهاء أعمال العنف، ما يهدد علاقتها الهشة أصلاً مع موسكو. المدنيون وحدهم عالقون في هذه المعمعة...


لم يشأ جمعة العيد أن يهرب، فقد كان ينتظر موسم الحصاد. جمع جيرانه كلهم مقتنياتهم ورحلوا، فشقوا طريقهم شمالاً من مدينة سراقب حيث كانوا يقيمون نحو محافظة إدلب السورية.

لقد كانوا خائفين من الغارات الجوية، لكن لم يتبقَ لعائلة العيد المؤلفة من ستة أفراد إلا 11 هكتاراً من الحبوب والفاصوليا. يقول الرجل بانفعال خلال اتصال عبر "واتساب": "المحصول! أريد أن أنقذ محصولي"!

رأى العيد وعائلته الطائرات وهي تحلّق فوق رؤوسهم نهاراً وشاهدوا وهج النيران ليلاً: "كل شيء اختفى. ارتجف ولداي من الخوف. شرحتُ لهما ضرورة أن نتحلى بالصبر... من أجل المحصول"! كان يُفترض أن يقطفه في شهر أيار.

لكن عاد العيد واستسلم حين دمرت الطائرات المقاتلة مولّد الكهرباء الخاص به ومضخة المياه، علماً أنه قد يكون آخر مزارع يغادر سراقب. في صباح يوم بارد من كانون الثاني، انطلق العيد مع زوجته وولدَيه وأبوَيه المتقدمَين في السن، وانضموا جميعاً إلى قافلة اللاجئين الذين يحاولون الهرب من اعتداءات قوات بشار الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين. منذ شهر كانون الأول الماضي فقط، هرب أكثر من نصف مليون شخص!

أصبحت البلدات والقرى مهجورة أصلاً قبل وصول الجيوش. في 28 كانون الثاني، اتجهت قوات الأسد نحو معرة النعمان، آخر مدينة كبرى في جنوب إدلب، فأصبحت بعد تقدّمها على بُعد كيلومترات قليلة من عاصمة المحافظة التي تحمل الاسم نفسه.طوال يومين في الأسبوع الماضي، لم تتابع الدبابات التقدم بالسرعة نفسها. في 3 شباط، قُتِل ثمانية عسكريين أتراك بنيران المدفعية السورية بالقرب من سراقب، فأطلقت الطائرات التركية "إف-16" ضربات انتقامية ضد قوات الأسد. يقال إن 13 جندياً قُتلوا نتيجة تلك العملية، مع أن المصادر الرسمية على الجانب التركي أعلنت عن سقوط ثلاثة أضعاف هذا العدد. لكنّ مقتلهم لم يمنع استمرار الغارات الجوية على المستشفيات والمناطق السكنية، أو على اللاجئين، في أنحاء إدلب. كذلك، وقعت مناوشات في الأسبوع الماضي مجدداً بين القوات التركية والسورية، حيث قُتل جنود من الفريقين.


علاقة معقدة


أصبح آخر معقل للثوار السوريين، في الجزء الشمالي الذي يشمل 3 ملايين نسمة، لعبة بيد حاكمَين مستبدَين متناحرَين يمكن اعتبار علاقتهما "معقدة" في أفضل الأحوال.

يؤكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان دوماً على صداقتهما المتبادلة قبل أن يبدأ كل طرف بقتل حلفاء الطرف الآخر، ثم يتبادلان مجدداً كلمات ودّية. اختارت القيادة الروسية، ببراعة تكتيكية واضحة، أردوغان كشريك لها في سوريا، وتحاول في الوقت نفسه إبعاده تدريجاً عن حلف الناتو، تزامناً مع إعاقة مساعي الرئيس التركي الرامية إلى الاستيلاء على السلطة بشكلٍ متكرر. يحرص كل فريق على مراقبة الطرف الآخر بحذر فيما يسعيان إلى تحقيق مصالح متناقضة، ولا يقتصر هذا الوضع على إدلب.

في شمال شرق سوريا ذات الأغلبية الكردية، أعطت موسكو الضوء الأخضر لتنفيذ الغزو التركي بعد انسحاب جزئي للقوات الأميركية، لكنها ضغطت في الوقت نفسه على الأكراد كي يرضخوا لنظام الأسد. يدعم البلدان فصائل مختلفة في ليبيا أيضاً. كانت أنقرة ترسل المرتزقة والأسلحة إلى رئيس الحكومة المدعوم من الأمم المتحدة، فايز السراج، بينما تعاملت موسكو بالمثل مع أمـــير الحرب خليفة حفتر.لكن لا تبدو عواقب هذه العلاقة السياسية المعقدة تدميرية بقدر ما هي عليه في إدلب. تمتد صفوف الناس والسيارات المكتظة والعربات التي تجرّها الحمير على كيلومترات طويلة. وغالباً ما تتراجع الحرارة ليلاً تحت درجة الصفر ويشق الكثيرون طريقهم نحو الشمال من دون أن يحملوا المال الكافي لاستئجار خيمة. وما من مساحة تكفي الجميع أصلاً في الشمال. أصبحت جميع المدارس التي نَجَت من الدمار مكتظة باللاجئين، وبدأت المساعدات الخارجية تتباطأ مع أن الناس بحاجة إليها اليوم أكثر من أي وقت مضى. كذلك، أعاقت روسيا والصين حديثاً قراراً في الأمم المتحدة كان ليسمح بمرور السلع عبر الحدود التركية.

يوم هرب العيد وعائلته من سراقب بالجرار الزراعي والمقطورة، نجحوا في قطع 3 كيلومترات. في مرحلة معينة، اتجهت طائرة مقاتلة سورية نحوهم. يتذكر العيد ما حصل قائلاً: "راحت الطائرة تنخفض شيئاً فشيئاً. ثم أطلقت علينا النار بمدفعيتها. نزل الرصاص على بُعد 4 أو 5 أمتار من مكان وجودنا. فرحتُ أتساءل: كيف نهرب قبل أن تنعطف مجدداً؟".وجدت هذه العائلة ملجأً لها في بستان زيتون على جانب الطريق: "قدتُ نحو البستان، على طرف الطريق مباشرةً. كانت زوجتي تبكي وشعرنا جميعاً بالرعب. انتظرنا طوال ثلاث ساعات. ثم وصلنا إلى مدينة بنش في المساء (على بُعد 15 كلم نحو الشمال الغربي)، حيث قابلتُ مجدداً صديقاً لي يملك مزرعة دجاج. فخصّص لنا غرفة صغيرة في الداخل. كانت رائحة المكان كريهة واستمر سقوط القنابل في الجوار. لكننا ما كنا لنموت من البرد القارس على الأقل". كان العيد يخشى أن يمرض ولداه. لم تتبقَ مستشفيات كثيرة هناك ولم يكن يملك المال لشراء الأدوية من الصيدليات القليلة المتبقية. في أواخر شهر كانون الثاني، دمّرت طائرة روسية واحداً من أواخر المستشفيات المتبقية في مدينة أريحا. سبق وغادر معظم السكان، ومع ذلك تابع الأطباء استقبال بين 300 و400 مريض يومياً، معظمهم أشخاص أصيبوا خلال الغارات الجوية. يقول الطبيب وجيه القراط: "اشتبهنا بأننا قد نتعرض بدورنا للاعتداء. قبل ساعات، تعرّضت قرية للقصف وحضر أربعون جريحاً إصاباتهم بالغة إلينا. ثم شاهدنا كيف كانت الطائرات بلا طيار تلاحق سيارات الإسعاف". عمل الأطباء بأسرع وتيرة ممكنة وجمعوا الموظفين والمرضى في القبو. دمّر الهجوم اللاحق أجزاءً كبيرة من المبنى وأسفر عن مقتل خمسة أشخاص في الجوار وصبي صغير. ثم هرع مدير المستشفى إلى الخارج لمساعدة الجرحى. لقد سمع بعد فوات الأوان أن الطائرة انعطفت لشن هجوم آخر. أصابته شظية في حلقه وتوفي بعد ثلاثة أيام.

لم يُخْفِ الأسد يوماً رغبته في استرجاع كل شبر من سوريا. ومع مرور كل سنة، يتنازل الثوار عن مدن ومحافظات إضافية. كانوا يستفيدون أحياناً من اتفاقيات تسمح بترحيل كل من لا يريد الرضوخ لحكم الأسد إلى إدلب. لكن انتهت تلك الأيام الآن، إذ ما من مخرج لسكان إدلب اليوم. في معرة النعمان، نشر رجال بِزِي عسكري من قوات الأسد صورة مريعة لاثنين منهم بالقرب من جثة رجل متقدم في السن كان مصاباً باضطراب عقلي وأصبح منسياً وسط الفوضى السائدة.

لكن لا تُقدِم وحدات الجيش السوري وحدها على قتل شعبها أو طرده، بل يشارك في هذه العملية أيضاً عشرات آلاف العناصر المنتمين إلى ميليشيات شيعية من أفغانستان وباكستان ولبنان والعراق، بقيادة فيلق القدس الذي يخضع لسيطرة الحرس الثوري الإيراني. نشأت هذه الشبكة على يد القائد قاسم سليماني الذي قُتِل خلال هجوم أميركي بطائرات بلا طيار في بداية كانون الثاني الماضي، لكن لا تزال شبكته قائمة.

بالنسبة إلى الناس المحاصرين في إدلب، يتوقف آخر بصيص أمل راهناً على غضب الرئيس التركي الذي يخشى خسارة نفوذه في حال تعرّضت تركيا للضغوط كي توافق على استقبال مليون أو حتى مليونَي سوري إضافي. سبق واستضافت تركيا أكثر من 3.6 ملايين لاجئ وفق أرقام الحكومة، واعتبر أردوغان حديثاً "الوضع في إدلب غير مقبول". حتى أنه لام روسيا مباشرةً على تصعيد الوضع للمرة الأولى.حين قُتِل جنود أتراك بنيران المدفعية السورية وردّت قوات أردوغان على ما حصل بقوة، كان الرئيس التركي يزور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. تم التخطيط لتلك الرحلة قبل وقت طويل، لكن كان توقيتها مناسباً لأردوغان. فاستغل تلك المناسبة لتصفية حساباته مع موسكو وأدان قرار ضم شبه جزيرة القرم مجدداً. كما تعهد بتقديم مساعدات عسكرية بقيمة 33 مليون دولار (30.3 مليون يورو) إلى زيلينسكي وهتف بعبارة "المجد لأوكرانيا"، وهو شعار قومي تعتبره الحكومة الروسية استفزازياً طبعاً.

بعد عودته إلى أنقرة، أعلن أنه سينشر المزيد من الجنود ما لم يسحب الأسد قواته من المنطقة بحلول نهاية شهر شباط. وفي تصريحٍ يمكن اعتباره تهديداً مفتوحاً بشن الحرب، دعا أردوغان روسيا إلى التوقف عن قصف إدلب "وإلا سنقوم بما يلزم"! يبدو أنه يأمل في تلقي الدعم من الأمم المتحدة أيضاً. زار قائد الناتو تود وولترز، وهو جنرال في القوات الجوية الأميركية، أنقرة في بداية كانون الثاني لمناقشة الأزمة السورية. وفي تصريح نُشِر في 4 شباط، رحّبت وزارة الخارجية الأميركية بالضربة الانتقامية التركية.تحرك المزارع جمعة العيد مجدداً باتجاه الشمال وقال: "لقد تساقطت قنابل كثيرة ولم أجد مكاناً كي تبيت فيه عائلتي. نحن نمضي الليل راهناً في المقطورة... وكأن كوكب الأرض كله يمعن في التضييق علينا مع مرور الأيام".


MISS 3