جوزيف حبيب

14 أيّار... الزلزال التركي المرتقب!

9 آذار 2023

02 : 01

الزلزال شكّل محطّة مأسويّة فاصلة في حياة ملايين الأتراك (أ ف ب)

ما بعد 6 شباط 2023 ليس كما قبله. ما بعد وقوع أكبر كارثة طبيعيّة في تركيا منذ قرن تقريباً، لن يكون كما قبله على الإطلاق. مما لا شكّ فيه أن تاريخ 14 أيّار سيكون يوماً مفصليّاً في الحياة السياسيّة في البلاد، قد يترتّب عنه تداعيات انتخابيّة مزلزلة. فتأخّر استجابة السلطات لفاجعة بهذا الحجم لأكثر من 48 ساعة على حدوثها في بعض المناطق المنكوبة، و»تفجّر» حجم الفساد من خلال فضائح عدم الإلتزام بمعايير البناء المطلوبة والتسويات والترتيبات التي حصلت حولها في دولة تقع فوق فوالق زلزاليّة خطرة، كان له وقعه على حزب «العدالة والتنمية» الحاكم الذي ولسخرية القدر عبّد طريقه للوصول إلى السلطة بنتيجة مدوّية على أنقاض زلزال مدمّر هزّ شمال غرب البلاد في العام 1999، تحت «تخدير» حقن وعود محاربة الفساد ومحاسبة المسؤولين عنه.

الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان رجل سياسي براغماتي ينتهج مقاربات واقعيّة بطرقه المكيافيليّة المعتادة، رغم خلفيّته وتوجّهاته الإسلاميّة. بيد أن «معالجاته» الاقتصاديّة غير العقلانيّة، لا سيّما إصراره على خفض أسعار الفائدة على الرغم من التضخّم الهائل وانهيار سعر صرف العملة المحلّية، تسبّبت بضرب القدرة الشرائيّة للأسر التركيّة واستنزاف مدخراتها، وبالتالي ازدياد النقمة الشعبيّة على نهجه الاقتصادي الذي وللمفارقة كان المحرّك الأساسي لصعوده الشعبي في بداية مسيرته السياسيّة. وأتت «فاجعة القرن» لتزيد الطين بلّة بالنسبة إلى أردوغان وحزبه، مع تكشّف صفقات الفساد الحكوميّة مع مطوّري بناء ومقاولين وشركات خاصة، بمعظمها مقرّبة من السلطات، شيّدوا مباني لا تُراعي الحدّ الأدنى من المعايير المطلوبة لمناطق تشهد نشاطاً زلزاليّاً.

وبالتوازي مع مأساة الزلزال التاريخي، الذي أدّى إلى انهيار عشرات آلاف المباني كالمجسّمات الورقيّة ومقتل نحو 46 ألف شخص ونزوح أكثر من 3 ملايين، فضلاً عن تجاوز قيمة الأضرار المباشرة الناجمة عنه الـ100 مليار دولار، في ظلّ وضع اقتصادي واجتماعي ومالي ونقدي متدهور، وجّهت المعارضة التركيّة المتمثّلة بتحالف «طاولة الستة» الذي يضمّ ستة أحزاب متنوّعة المشارب، صفعة سياسيّة من العيار الثقيل لأردوغان وحزبه، بعدما حافظت على وحدتها ورسّختها عبر حسم خيارها النهائي بدعم ترشيح زعيم حزب «الشعب الجمهوري» العلماني، أكبر حزب معارض، كمال كيليتشدار أوغلو، لمقارعة أردوغان على منصب الرئيس، على أن يكون رئيسا بلديتَي اسطنبول وأنقرة، أكرم إمام أوغلو ومنصور يافاش، اللذَان ينتميان إلى الحزب ذاته ويتمتّعان بشعبيّة واسعة، نائبَين له إذا تربّع على عرش الرئاسة. ومن المقرّر أيضاً تعيين الزعماء الخمسة الآخرين للأحزاب الستة «نواباً للرئيس». ويتّجه حزب «الشعوب الديموقراطي» اليساري المؤيّد للأكراد، وهو ثالث الأحزاب من حيث الحجم داخل البرلمان التركي وغير منضوٍ في تحالف «طاولة الستة»، إلى تأييد ترشيح كيليتشدار أوغلو لرفع فرصه للوصول إلى السلطة والتخلّص من «الديكتاتور» أردوغان.

ومع حفاظ تحالف «طاولة الستة» على تماسكه وتفادي انقسامه وتبنّيه مرشّحاً موحّداً للرئاسة هو رئيس حزب أطلقه مؤسّس الجمهوريّة مصطفى كمال أتاتورك، باتت المعركة «وجوديّة» بالنسبة إلى أردوغان المُطوّق بمشكلات على جبهات داخليّة متعدّدة، في حين تُجمع استطلاعات الرأي على أن السباق الرئاسي والمعركة الانتخابيّة التشريعيّة محتدمان بقوّة إلى أقصى حدود، مع استمرار الغموض حول ما إذا كان باستطاعة أي من المرشّحَين الرئيسيَّين حسم الصراع الرئاسي من الجولة الأولى. وبالفعل، يواجه الرئيس التركي أكبر تحدّ انتخابي له منذ نحو عقدَين، لكنّه ما زال رقماً صعباً ويتمتّع بكاريزما ساحرة تستطيع استنهاض أنصاره والقاعدة المحافظة الضاربة في أعماق البنى التحتيّة للمجتمع التركي، بينما يُعتبر منافسه المشاكس والهادئ في آن واحد، كيليتشدار أوغلو، العلوي الإنتماء المتحدّر من الطبقة الفقيرة والملقّب بـ»غاندي كمال» بسبب تشابهه الملحوظ في المظهر والأسلوب مع الزعيم الهندي الراحل المهاتما غاندي، رجلاً بيروقراطيّاً يفتقر إلى الجاذبيّة والقدرة على حشد الجماهير وتعبئتهم.

أعاد تسارع التطوّرات الداخليّة الدراماتيكيّة المتلاحقة خلط الأوراق الانتخابيّة في الصراع على السلطة، ما يجعل هذه الانتخابات من الأكثر غموضاً وحماسةً على الإطلاق في تاريخ تركيا الحديث. يُعيد أردوغان ترتيب السياسة الخارجيّة التركيّة وتوجيهها بما يتلاءم مع مصالحه ومصالح بلاده الحيويّة والاستراتيجيّة، أقلّه كما يراها هو. لكنّ تراكم الأزمات الداخليّة والفشل في الاستجابة للزلزال ألقيا بثقلهما على الحزب الحاكم وباتا يُهدّدان بالاطاحة به أكثر من أي وقت مضى. وتحت ضغط ردود الفعل الغاضبة، اعترف أردوغان بالتقصير في مساعدة المنكوبين واعتذر عن ذلك، ووعد بإعادة الإعمار على أُسس علميّة سليمة، كما شرعت السلطات في التحضير لملاحقات قضائيّة بحقّ مطوّري بناء ومقاولين مشتبه فيهم وأوقفت الكثير منهم أثناء محاولتهم الهرب إلى خارج البلاد، فيما تبقى معضلة «استعادة الثقة» التي باتت مفقودة لدى قسم كبير من الأتراك، أبعد منالاً وأكثر صعوبة على التعويض بوعود انتخابيّة يعتبرونها عابرة وفارغة وشعبويّة، لن تُعيد أحبّاءهم الذين دُفنوا تحت الأنقاض بسبب الفساد والتقصير وضعف الاستجابة السريعة لغضب الطبيعة.

الزلزال شكّل محطّة مأسويّة فاصلة في حياة ملايين الأتراك قد تؤدّي إلى إعادة تشكيل النظام السياسي برمّته في حال اختار المقترعون محاسبة «العدالة والتنمية» وأردوغان في صناديق الاقتراع، تشريعيّاً ورئاسيّاً، وتغيير الوجه السياسي لأنقرة، حيث تهدف المعارضة حال انتصارها في الانتخابات وتولّيها السلطة، إلى إحداث تغيير كامل وإعادة إرساء النظام البرلماني وإنهاء حقبة النظام الرئاسي الذي استأثر خلالها أردوغان بالسلطة التنفيذيّة، لا بل ذهب إلى حدّ التدخّل في عمل القضاء واستخدمه كسلاح فتّاك بيده لمحاربة الناشطين المعارضين وخصومه السياسيين، خصوصاً حزب «الشعوب الديموقراطي» الكردي، بالضغط عليهم قضائيّاً وإصدار أحكام لها خلفيّات سياسيّة وزجّهم في السجون.

الحسابات الانتخابيّة دقيقة للغاية ومعركة استقطاب الناخبين، لا سيّما المتردّدين بينهم، تستعر شيئاً فشيئاً مع اقتراب الاستحقاق المنتظر، والجميع يستخدم كلّ ما في جعبته من أسلحة «شرعيّة وغير شرعيّة» لإلحاق الضرر بصورة الخصم تمهيداً ليوم الحسم الرئاسي والتشريعي، حيث تظهر الأحجام على حقيقتها وتُحدّد وجهة تركيا سياسيّاً وثقافيّاً واقتصاديّاً، أقلّه في المدى المنظور، في وقت تتكدّس فيه ملفات داخليّة وخارجيّة عالقة، على الرابح حمل أوزارها ومواجهة التحدّيات الصعبة المقبلة على بلاد تنهض من كبوة لتُلاقي أخرى وتخرج من أزمة لتصطدم بأخرى، بحكم الموقع الجغرافي الحسّاس المتقاطع مع فوالق زلزاليّة مدمّرة، جيولوجيّة وجيوسياسيّة على حدّ سواء.


MISS 3