دانيال بليتكا

"الفساد" نقطة ضعف النظام الإيراني

10 آذار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

جدارية للمرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي في طهران | إيران، 9 آذار 2022

استمرّت الإحتجاجات التي أطلقها موت الشابة مهسا أميني (22 عاماً) على يد شرطة الأخلاق الإيرانية، وصعّد النظام الإيراني تحرّكاته وذهب إلى حدّ إعدام مصارع معروف ورجل يحمل جنسيتَين، لكنه فشل رغم ذلك في إخماد الاستياء العام. عجزت طهران عن إيجاد الحل السحري الذي تبحث عنه لإسكات شعبها الثائر. لكن فشل الشعب الإيراني في تحركاته أيضاً، فقد عجز عن إيجاد الحل الذي يفيده لإسقاط آيات الله بشكلٍ نهائي. لكن قد يتعلّق ذلك الحلّ بالفساد ويحتاج الشعب بكل بساطة إلى قوة غربية مسؤولة للاستفادة منه.



قبل الغوص في تفاصيل السرقات الإيرانية الرسمية، لنتذكّر أولاً قصص أنظمة مخلوعة أخرى. في حالات كثيرة، كان القادة وأعوانهم في أنظمة استبدادية متنوّعة منتسبين بالكامل إلى المجتمع الدولي، ما يعني أن يحصلوا على مقعد في الأمم المتحدة أو تتمّ استضافتهم في البيت الأبيض مثلاً، قبل أن يسقطوا من السلطة وينصدم العالم حين يكتشف أن الطغاة كانوا ينهبون مليارات الدولارات من خزائن بلدانهم.

لنتذكر مثلاً الرئيس المصري السابق حسني مبارك الذي كان حليفاً مقرّباً من واشنطن. أُطيح به في العام 2011، لكن كان فساده أسطورياً داخل مصر (في الأوساط غير الرسمية طبعاً)، وكان أشرس مناصريه وحدهم يتجاهلون الأدلّة الواضحة على فساده. كان يُفترض أن تلاحظ واشنطن هذه الممارسات أيضاً، فقد كان مبارك يملك عقارات في "بيفرلي هيلز"، وعدداً من المنتجعات في مدينة شرم الشيخ الساحلية المصرية، ومنازل في لندن ونيويورك. أشارت تقديرات الخبراء إلى بلوغ ثروته حوالى 70 مليار دولار، ويقال إنّ ابنَيه هما من أصحاب المليارات أيضاً.

ماذا عن الرئيس العراقي السابق صدام حسين الذي كان مقرّباً من واشنطن قبل عملية غزو الكويت المحرجة في العام 1990؟ على مرّ التسعينات، استغلّ هذا الأخير برنامج النفط مقابل الغذاء الذي قدّمته الأمم المتحدة لجمع مكاسب شخصية له ولأبنائه بقيمة ملايين الدولارات. حتى أن جزءاً من صفقاته كان يُغنِي الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين وفلاديمير بوتين في شبابه وفق بعض التقارير. كانت الحكومة الأميركية تدرك أيضاً تهرّب صدام من قيود بيع النفط، بما في ذلك مع حلفاء واشنطن في الأردن، وتركيا، والخليج العربي. (تجدر الإشارة إلى أن الحرس الثوري الإيراني استفاد بدوره من أعمال صدام القذرة، وحتى الرئيس السوري بشار الأسد الذي كان حليف الولايات المتحدة لمرة واحدة فقط في خضمّ الحرب على الإرهاب).

في ما يخصّ معمّر القذافي، قد لا يكون هذا الزعيم الليبي السابق من الشخصيات المفضّلة في أي ظرف، حتى بعد تقرّبه الوجيز من الغرب غداة هجوم 11 أيلول، لكن تظاهرت الصحافة بالصدمة بعدما انقلب عليه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما أخيراً في العام 2010، ودَعَم ضمناً العصابات الليبية التي قبضت عليه في نهاية المطاف وقتلته. سرعان ما تبيّن أن القذافي المعروف بتقلّباته الحادة كان يملك أكثر من 200 مليار دولار حول العالم، ويقال إن 37 ملياراً منها كانت موجودة في البنوك الأميركية.

توضح هذه السلسلة من الحالات حجم الهوس بالسرقة في الشرق الأوسط. يسجّل لبنان وحده مستويات قياسية من الفساد الحكومي الذي دمّر البقايا الضئيلة التي تركتها سوريا وإيران للشعب اللبناني. من الواضح أيضاً أن معظم حالات الفساد التي تصبّ في هذه الخانة ينكشف بعد حدوثه. لم تتّخذ الحكومة الأميركية تدابير جدّية ضد الفساد مثلاً إلا بعدما أطلق بوتين غزوه الثاني لأوكرانيا في العام 2022.

في مرحلة معيّنة، تفاخر الإسلاميون السُّنة والشيعة بمقاومتهم الفساد المستفحل في الشرق الأوسط، لكن انتهى ذلك الزمن منذ وقت طويل. بالعودة إلى إيران، يقال إن الرئيس الإيراني السابق علي أكبر هاشمي رفسنجاني يملك ملايين الدولارات باسمه. تعرض المنظمة المعادية للنظام، "متحدون ضد إيران النووية"، سلسلة من السرقات الرسمية وتُفصّل كيفية سرقة مليارات الدولارات داخل وزارة النفط الإيرانية، واختلاس مليارات أخرى من البنوك الحكومية، وتلقّي نِسَب ضئيلة من الاعتمادات الحكومية عبر المبالغ المخصّصة للأدوية والإمدادات في القطاع الصحي. وبعد تكليف الرئيس الإيراني الراهن إبراهيم رئيسي بإدارة السلك القضائي الإيراني في العام 2019، تعرّض سلفه للهجوم لأنه أودع حوالى 100 مليون دولار في 63 حساباً مصرفياً مختلفاً.

فصّلت صحف وتقارير محلية داخل إيران جزءاً من هذا الفساد. لكن كلما اقترب الفاسدون من أعلى المراتب، تتراجع الأخبار المرتبطة بهم. يقال إن الضابط الفاسد السابق في الحرس الثوري الإيراني وعمدة طهران، محمد باقر قاليباف، قام برشوة المسؤولين الحكوميين لتجنّب تُهَم الاحتيال. كان القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، متورطاً في هذه الممارسات أيضاً، وقد انكشفت هذه المعلومات كلها في تسجيل مسرّب.

لم تحصل هذه القصة على تغطية واسعة داخل إيران نظراً إلى علاقة قاليباف مع المرشد الأعلى علي خامنئي و"استشهاد" سليماني. حتى أن خامنئي هاجم الصحف لأنها نشرت تفاصيل عن تلك القصة، واعتبر التسريبات جزءاً من جهود العدو "للتشهير بعناصر أساسية أثّرت في تقدّم الثورة؛ هم يستهدفون المجلس [البرلمان الإيراني] يوماً، ومجلس صيانة الدستور أو الحرس الثوري الإيراني في يوم آخر. اليوم، جاء دور الحرس الثوري الإيراني. هم يهاجمونه ويحاولون تشويه سمعته والتشهير بالشهيد العظيم سليماني".

كذلك، طَمَس خامنئي تُهَماً بالاعتداء الجنسي بحق خطيب قرآني مقرّب منه، وفرض رقابة صارمة على الصحف والوزراء الذين يتكلّمون عن الفساد داخل الحكومة، وأنكر تُهَم الفساد بحق رئيس المحكمة العليا السابق، آية الله صادق آملي لاريجاني، الذي اتُّهِم بالتغاضي عن سرقة واسعة النطاق. (اعتُقِل نائبه السابق بسبب ارتكابه جرائم مالية في العام 2019). في نهاية المطاف، استُبدِل لاريجاني برئيسي الذي يُعتبر الآن مرشّحاً محتملاً لاستلام منصب المرشد الأعلى المريض بعد وفاته. وعندما بدأ رفسنجاني عرض تفاصيل الثروة الطائلة التي يملكها أبناء خامنئي في العام 2016، تعرّض ابنه للاعتقال سريعاً وحُكِم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات.

كتب رجل الدين المعارِض، مهدي كروبي، الذي يعيش تحت الإقامة الجبرية منذ العام 2011، رسالة مفتوحة إلى المرشد الأعلى في العام 2018، فاتّهمه بالتغاضي عن فساد النظام وإفقار عشرات ملايين الإيرانيين مقابل إغناء نخبة محدودة، ثم حذّره قائلاً: "في ظروف مماثلة، من الطبيعي أن تتحوّل الطبقات الدنيا، التي شكّلت سابقاً أساس القاعدة الشعبية الداعمـة للثورة الإسلاميـــــة، إلى قنبلة موقوتة".

نظراً إلى توسّع الشريحة التي تعرف حجم الفساد داخل إيران، قد يتساءل الفضوليون عن السبب الذي يجعل أي تفاصيل قذرة أخرى عن هذا الموضوع تقلب مسار الثورة الواسعة أصلاً في إيران. لكن ثمة ثغرات كبيرة في التقارير المرتبطة بالكسب غير المشروع على أعلى المستويات في الحكومة الإيرانية، ولا تظهر المزاعم المتعلقة بجرائم خامنئي إلا على مواقع إلكترونية أجنبية في المنفى.

باختصار، لا يريد خامنئي أن يعرف مواطنوه (أو المسؤولون الحكوميون الأدنى مرتبة) بحجم ارتكاباته. وليس مفاجئاً أن يذكر تقرير وزارة التعاونيات والعمل والرعاية الاجتماعية الإيرانية، في شهر كانون الثاني، أن حوالى 60% من 84 مليون إيراني يعيشون تحت خط الفقر، بينما يعيش ثلثهم في حالة من "الفقر المدقع"، وهو ضعف العدد المسجّل في السنة السابقة.

بدل لوم الولايات المتحدة أو العقوبات الدولية على هذه الأزمة المتفاقمة، لام الإيرانيون حكومتهم بكل وضوح. لو علموا حجم الأموال التي سرقها مرشدهم الأعلى وأعوانه في الوقت الحقيقي (بدل انكشاف هذه المعلومات بعد رحيل القادة، كما حصل مع معمّر القاذفي وحسني مبارك)، لتغيّر الوضع بطريقة جذرية أخيراً وانقلب ما تبقّى من مناصري النظام في قوى الأمن والأوساط الشعبية ضده، بحسب كروبي.

كيف يمكن تحقيق ذلك؟ اتّهم المسؤولون في إدارة دونالد ترامب خامنئي باقتناء حوالى 200 مليار دولار. (كان تحقيق سابق لوكالة "رويترز" قد عرض تفاصيل عن أصول بقيمة 95 مليار دولار على الأقل). لكن يقف تأثير الحكومة الأميركية على المرشد الأعلى عند هذا الحد. مثلما بدأت إدارة ترامب تُفصّل ثروة خامنئي الشخصية، تستطيع الحكومات الأوروبية والأميركية أن تبدأ بالكشف عن شبكة الأصول الخفية التي يملكها المرشد الأعلى وعائلته ثم تتصرف على هذا الأساس.

غداة الغزو العراقي للكويت، جمّدت الحكومة الأميركية أصول صدام حسين. ثم اتخذت الخطوة نفسها مع القذافي وأعوانه عندما قررت الولايات المتحدة أن الوقت حان لرحيله. كان جزء من تلك الأصول سيادياً، لا سيما أموال الحكومة الأجنبية، لكن لا ينطبق هذا المعيار على جميع المبالغ. ما سبب الانتظار إذاً؟ إذا كان تجميد أصول أعداء واشنطن الفاسدين ممكناً عند سقوطهم أو اندلاع الحرب، فما الذي يمنع اتخاذ هذه الخطوة مسبقاً؟ أكدت إدارة جو بايدن بكل وضوح أنها تملك الصلاحيات القانونية لتجميد عائدات الفساد حين تعاملت مع الأوليغارشيين الروس وأعوان بوتين.

كان معظم الحكام الدكتاتوريين الراحلين في الشرق الأوسط يملكون الأموال والعقارات في الولايات المتحدة، وتخضع هذه المبالغ لسلطة الحكومة الأميركية الفدرالية. تملك الولايات المتحدة إذاً وسائل متعدّدة لنقل التفاصيل إلى الشعب الإيراني، عبر أي معلومات تُسرّبها الصحف الأميركية، أو عبر "راديو فاردا" الناطق باللغة الفارسية (إنه جزء من "إذاعة أوروبا الحرّة" المُموّلة من الولايات المتحدة)، أو عبر المنصب العام الذي يشغله الرئيس الأميركي.

لكن إذا كان الفساد نقطة ضعف النظام الإيراني، كما يقول كبار المسؤولين الأميركيين، ألم يَحِن الوقت للبدء باستغلال ذلك الضعف بما يصبّ في مصلحة الشعب الإيراني الذي يعيش معاناة كبرى منذ وقت طويل؟


MISS 3