سيلفانا أبي رميا

بين شهيد ومفقود ومغترب...أمهات لبنان بلا عيد

21 آذار 2023

02 : 01

رولا ملاحي والدة الشهيد رالف ملاحي
منذ ما يقارب الأربعة عقود، إعتاد عيد الأم أن يطلّ ثقيلاً على أمهات لبنان، فيجدهنّ قد بِعن الأعياد بألوانها وفرحها، وركضن يبحثن دون كلل عن فلذات أكبادهن في المعتقلات وتحت ركام الإنفجارات وبين براثن الغربة. واليوم أيضاً، لم يختلف المشهد على أرض وطنٍ مزّقه الظلم وأكل الفساد من معالمه أطناناً، فهنا تتوالى الأعياد كالمواسم على بطلات رفضن الاستسلام وبنَينَ من مرارة التجارب مدارس في الصبر والثبات والشجاعة. "نداء الوطن" زارت الأمهات في عيدهن وعادت برسائل وكلمات ممزوجة بالوجع والحسرة وحفنة أمل.

"هذه الصورة التقطها مع رفاقه في يوم عيد ميلاده، وفي اليوم التالي اختفى". بهذه الكلمات تشاركت معنا منتهى حيدر الصورة الأخيرة التي التقطتها لإبنها سمير محمد الخرفان في عيده الـ18 قبل أن يختفي وينضمّ إلى قافلة مفقودي الحرب الأهلية.

كثيرةٌ هي الصور التي تحتفظ بها الحجة وتقلّبها قائلةً: "أنظري كم هو حلو ومهيوب، كان يحب التأنّق كثيراً، حتى أنه ترك ملابس جديدة في خزانته اشتراها ولم يتنعّم بفرصة ارتدائها".

هذه الأم التي تنتظر كل صباح لقاء فلذة كبدها أخبرتنا أنها في كل عيد تناديه ليقطع معها قالب الحلوى علّه يسمع وتلمح وجهه عائداً. ولم تستطع تمالك دموعها وهي تقول: "أدفع عمري لأراه أمامي، مبتور الأطراف، مصاباً، لا يهمّ، المهم أن أسمع صوته وألمس وجهه وأشمّ رائحته من جديد"، مضيفةً: "الأعياد كلها باتت تمرّ قاسية ومُرّة منذ اختفاء سمير، هو الذي كان ضحكة البيت وزينته، يملأ المكان بحيويته حيثما حلّ ويمتعض ويخجل حين أدلّعه سمّورة"، خاتمةً حديثها بغصة: "أما اشتقت لي يا سمير؟ أما اشتقت للقمة الأكل التي كنت تنتظرها من يدي؟ أنا ما زلت أنتظرك يا صميم قلبي وروحي ولن أملّ".



منتهى حيدر وابنها المفقود سمير الخرفان



سمير الخرفان في عيد مولده قبل ليلة من اختطافه


وفي قصة ألمٍ أخرى، تخبرنا أديل أحمد الغوش عن السنوات الطويلة التي بحثت فيها عن خيط أمل يوصلها إلى ابنها المفقود علي سعيد الحاج. وقالت: "أي عيد أحتفل به وبيتي ناقص وبالي مشغول بقضية علي ليلاً نهاراً. طيفه يرافقني كيفما تحرّكت في مأكلي وصلاتي ونومي، وما زلت حتى اليوم عندما أسمع الباب فُتح أو ضجة غريبة في البيت أتمنى أن يكون هو قد عاد إلينا".

وأضافت وهي تجهش بالبكاء: "الكل ينسى إلّا الأم لا تنسى. حتى بوجود إخوته تحرقني غصة غيابه. أريد إبني بين يديّ حياّ أو ميتاً ولن أستسلم. ولا عيد بدونه، علي هو هديتي وعيدي".



الحجة أديل غوش والدة المفقود علي سعيد الحاج



المفقود علي سعيد الحاج



أما الحجة ذيبه مصطفى الحسن، التي فقدت ابنتها ريا في الحرب الأهلية، فتكتفي بالتحسّر والصمت، وتقول: "إن الصلاة سلاحها الوحيد". أما حفيدتها عبير مطر (إبنة ريا) فتخبرنا أن جدّتها توقفت عن الاحتفال بالأعياد وخصوصاً عيد الأم، وأنها تحاول الترفيه عنها قليلاً باختيار هدية قد تسعدها.



وتقول: "أنا أيضاً لا أحتفل بعيد الأم وبتّ أكره قدومه وأتألم. وجدّتي كذلك الأمر. لا نريد من الدنيا ومن المسؤولين سوى عودة أمي التي حرمنا منها شبح الحرب ووحش الفساد والطائفية والظلم".



المفقودة ريا علي الدوالي


ذيبه مصطفى الحسن والدة المفقودة ريا علي الدوالي



أمهات شهداء المرفأ

"كان يحلّ عيد الأم وتحلّ معه الفرحة، وبعد "4 آب" المشؤوم لم يتبقَّ سوى الغصة"، بهذه العبارة استهلّت زينة والدة الشهيد دجو نون حديثها والسواد غطّى ملابسها وعينيها وقلبها.

واستذكرت آخر عيد أمّ جمعها بابنها دجو وقالت: "آخر عيد أمّ كان خلال جائحة "كورونا"، يومها دخلت نانسي ودجو وويليام حاملين قالباً من الحلوى أعدّوه بأنفسهم". لم تستطع زينة استكمال التذكّر وغلبها البكاء، ثم استطردت: "الذكريات الجميلة مع دجو لا تُحصى، كان آخرها مشوارنا سوياً إلى وادي قنوبين حيث أمضينا يوماً مليئاً بالفرح والضحك... يوم رحيل دجو ماتت قطعة من قلبي وإلى الأبد".




زينة نون والدة الشهيد دجو نون


وبين الصور والأوراق، رسالة من دجو إبن السبع سنوات لأمه في عيدها، تقول زينة إنها "الأحب إلى قلبها". وأخبرتنا أن أمنيتها الوحيدة في هذا العيد وفي كل يوم أن يكون دجو راضياً عنها من حيث هو في السماء، وأن يحمي الرب ولديها ويليام ونانسي.



رسالة دجو إلى أمه في سن السابعة



وبالرغم من تأكيدها أن لا شيء في الكون يمكن أن يمسح الدمعة التي ارتسمت يوم استشهاد إبنها، أخبرتنا عن الفرحة التي ستدخل قريباً منزلها بزواج إبنها ويليام من ماريا فارس شقيقة الشهيدة سحر فارس.

وتوجهت للأمهات بالقول: "لمن فقدنَ فلذة كبدهن أقول الله يصبّركن ويبرّد قلبكن، وللأمهات في عيدهن لله يحمي أولادكن فهُم الحياة وما فيها ولا معنى لها بعدهم".


 


أما رولا ملاحي، والدة الشهيد رالف ملاحي الذي خطفه انفجار المرفأ، فقالت إنّ "عيد الأم كان الأحب إلى قلبي، لكن الأمر تغيّر برمّته بعد رحيل رالف. الدمعة لا تفارقني والغصة أكبر من أن توصَف". وأضافت: "رالف بات بعيداً عن عيني إلا أنه ساكن في قلبي. ألله لا يجرّب إمّ بحرقة خسارة ضناها".

وأكدت أن تاريخ "4 آب" قلبَ كل حياتها وأصابها بوجع لم تتخيّله يوماً وحفر في قلبها غصة لا تختفي. وأخبرتنا أن رالف اعتاد سنوياً في عيد الأمّ أن يأخذ باقة من الورود ويتوجه بها إلى حريصا ليعايد العذراء، قبل أن يعود وينهمك في تزيين البيت وتحضير المفاجآت لأمّه.

وبحسرة كبيرة، تعود رولا إلى آخر عيد أمّ قضَته مع رالف، حيث فاجأها الأخير بـ"تاتو" حفره حديثاً على ذراعه ويتضمّن اسمها واسم أبيه، وتقول: "إنّ المفاجأة الأكبر كانت عندما قال لي إنها أجمل وآخر هدية منه من دون أن يذكر السبب"، وأردفت: "كأنه كان يعلم ما ينتظره".

وككل أُمّ تمّنت في هذا اليوم تحقيق العدالة لشهداء "4 آب" وألا يتكرّر ما قد يحرق قلب أُم على ولدها.



رولا ملاحي والدة الشهيد رالف ملاحي


وكالحرب والخطف والانفجارات، تأتي الغربة لتسرق من الأمهات أجمل اللحظات والأعياد مع أولادهن.

أمهات كـسرتهنّ الغربة

وكآلاف الأمهات في هذا الوطن، تجلس إيفيت وحيدةً بعدما غادر إبناها إلى الإمارات بحثاً عن لقمة العيش لتأمين المستقبل ودعم أهلهما. وبغصةٍ تقول: "نحن نعيش في بلدٍ لا يتوانى لحظة عن سرقة فرحتنا بأولادنا بأي طريقة كانت، وقد سرق مني اليوم شابان بعمر الربيع وأخذهما بعيداً عني ليبحثا عن لقمة العيش والمستقبل والاستقرار في بلد غريب".

أما عن عيد الأم فقالت: "أولادنا هم العيد. لا معنى لشيء إذا كانوا بعيدين عن نظري. أطلب من الله أن يرافقهما ويحميهما".


MISS 3