حسان الزين

أعمال تكسر صورة "التخلف" و"فتاوى الفـضائيات" وتسهم في الحفاظ على التنوّع

إسلام ما بعد هزيمة 1967:ثمانية مفكرين لم يتركوا سلاح التجديد

25 آذار 2023

02 : 03

هناك صورة عن الإسلام تحضر بقوة في المشهد العالمي، وليست المنطقة العربية في منأى منها. صورة من صور عدة: دين جامد، قديم، متطرّف، عنيف، استبدادي، تمييزي ضد المرأة... الخ.

لكن، هناك، خلف تلك الصورة، أمور كثيرة جميلة، وإمكانيات واسعة وغنيّة للمعرفة. هناك، مثلاً، مفكّرون ومؤرّخون، من المنطقة العربية والعالم، يحللون ويدرسون ويجتهدون ويحاولون تقديم ما هو جديد وعلمـــــي. ومن هؤلاء، مثلاً، محمود محمد طه (السودان)، محمد باقر الصدر (العراق)، محمد عابد الجابري (المغرب)، محمد أركون (الجزائر)، طه عبد الرحمن (المغرب)، حسن حنفي (مصر)، أبو يعرب المرزوقي (تونس)، ومحمد شحرور (سوريا).

هؤلاء، وغيرهم كثيرون، تكرر عليهم سؤال "لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟"، وورثوا سؤال "الإسلام والتجديد"، الذي أُعيدت صياغته مرّات عدة منذ عبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا، مروراً بطه حسين وعلي عبد الرازق، ومصطفى عبد الرازق، ومحمد إقبال...

إخترنا هؤلاء، وهناك آخرون لا يقلّ جهدهم عنهم، ليس لحضورهم وقوّة أعمالهم فحسب، إنما أولاً كي لا نبقى نكتفي بالصورة الاختزالية التنميطية المضجرة وغير العلمية وغير الواقعية.

وهؤلاء جميعاً ممن عاشوا هزيمة العرب في حرب 1967 مع إسرائيل، وتأثّروا بها وبنتائجها وتداعياتها. ومساهماتهم الفكرية، وبعضهم السياسية، محاولات لخروج الإسلام والمسلمين، البلدان العربية ومجتمعاتها المتنوّعة، مما أنتجته تلك الهزيمة وأضافته إلى قائمة الأزمات الآسرة. فأكدوا، مرّة أخرى، أن الإنتاج الفكري، بما في ذلك قراءة القرآن والإسلام والتراث، لا يجري بمعزل عن التاريخ أو فوقه. وهؤلاء كافة، وغيرهم، واجهوا بعد 1967 السؤال عن أسباب الهزيمة. وقد وضع الإسلام، ديناً وتراثاً وتاريخاً وكل ما يتعلّق به، على طاولة البحث. وفُتحت الورشة، وبدأت الآراء تتطاير يميناً ويساراً. بداية، ساد "نقد الفكر الديني" (1969) الذي يحمّل فيه المفكّر السوري صادق جلال العظم مسؤولية الهزيمة والأحوال المأسوية كلها لـ"الأيديولوجيا الدينية التي تستغلها الرجعية العربية". وقد انضم إليه الشاعر السوري أدونيس (١٩٧٣) متهماً "الثابت"، أي "البنية الأيديولوجية الفوقية للمجتمع الإسلامي"، بالتغلب على "المتحوّل" الذي هو الإبداع. وهذا ما أسّس، برأيه، لصدمة الحداثة، وبالتالي للتخبط والتقهقر والهزيمة وكل ما تعانيه المجتمعات العربية وتعيش الثقافة العربية، ومعها الإنسان العربي، تحت نيره.

في هذه الأجواء، أقرَّ المفكر والسياسي الإسلامي حسن الترابي (السودان)، في مطلع السبعينيات من القرن العشرين، بضرورة التجديد وقابليته. وانضم إليه كثيرون من الإسلاميين.

وسط هذا، يقف هؤلاء المفكرون، وآخرون كثيرون. وقد باتت قراءتهم، ونقد قراءاتهم، في صميم المواجهة مع الصورة الاختزالية ومع استبداد الهوية في آن معاً. إن قراءتهم، ونقد قراءاتهم، فعلُ "تجديد" وفعل تجوّل في أرض الإسلام وسمائه في آن معاً.



محمود محمد طه



محمود محمد طه: "الرسالة الثانية في الإسلام"

قبل أن يُحاكم في بيروت المفكر صادق جلال العظم بسبب "نقده الفكر الديني"، كان المفكر والداعية والسياسي محمود محمد طه (1909 - 1985) يواجه في السودان اتهامه بالردة.

وتروي أسماء محمود محمد طه والنور محمد حمد أن "التآمر على حياة طه بدأ، أول ما بدأ، في نهاية الستينيات من القرن العشرين، حين تقدم شيخان بدعوى حسبة، طلبا فيها من المحكمة الشرعية في الخرطوم، إعلان ردته عن الإسلام، بناء على مقتطفات منزوعة من سياقها قاما باستخراجها من كتبه. وبعد محاكمة مرتجلة، أصدرت تلك المحكمة الشرعية، في تشرين الثاني 1968، حكماً غيابياً بردة طه عن الإسلام! وصدر الحكم غيابياً، وقد رفض المثول أمام تلك المحكمة".

أسس طه، في 1945، الحزب الجمهوري الذي دعا إلى تغيير النظام من ملكي إلى جمهوري. وبعد نحو عام، عارض تفعيل السلطات البريطانية في السودان قانون منع ختان الإناث. وعقب اعتقال امرأة ختنت ابنتها، وقف طه خطيباً في مسجد بمدينة رفاعة قائلاً: "ليس هذا وقت العبادة في الخلاوي والزوايا، إنما هو وقت الجهاد". ووزع حزبه منشوراً يؤكد فيه أن "العادات السيئة لا تُحارب بالقوانين بل ببث الوعي والعلم وإشاعة التنوير في المجتمع"، رافضاً التدخل الخارجي في شأن يخص المجتمع السوداني. وبتأثير من ذلك، اقتحمت انتفاضة شعبية السجن وأطلقت سراح المرأة. عند ذاك قررت السلطات اعتقال طه، وأودعته السجن لسنتين. وهناك بدأت تتشكل ملامح مشروعه الفكري السياسي الذي سيتبلور بعد خروجه من السجن وانقطاعه عن الناس والعمل السياسي، في صيام صمدي دام لسنتين أيضاً.

خرج بعد ذلك بنظرية "الرسالة الثانية من الإسلام"، وتقوم على التمييز بين الآيات المكيّة والآيات المدينية. فقد اعتبر الأولى، التي تدعو إلى السماح ونبذ الإكراه في الدين، جوهر الرسالة المحمدية. أما الآيات المدينية، فاعتبر أنها تخص الظروف الواقعية ومستوى الوعي العام، بين الخصوم والمؤمنين، في ذاك الزمن، قبل نحو 14 قرناً. ما يعني، وفق طه، أن الآيات المكيّة هي "الأصل" وهي الدائمة، بينما الآيات المدينية تخص زمنها وواقعها ومجتمعها. من هنا، دعا إلى "الرسالة الثانية" التي تستند إلى الرسالة الأولى، إلى ما يعتبره "أصلاً"، وفي الوقت نفسه تتوافق مع العصر.

ويعتبر طه في كثير من الجرأة أن "الجهاد ليس أصلاً في الإسلام" (الأصل في الإسلام أن كل إنسان حر، إلى أن يظهر، عملياً، عجزه عن التزام واجب الحرية)؛ وكذلك "الرق ليس أصلاً" (الأصل في الإسلام الحرية)؛ و"الرأسمالية ليست أصلاً" (الأصل في الإسلام شيوع المال بين عباد الله، فيأخذ كل حاجته، وهي زاد المسافر)؛ و"عدم المساواة بين الرجال والنساء ليس أصلاً في الإسلام" (الأصل هو المساواة التامة بين الرجال والنساء، ويلتمس ذلك في المسؤولية أمام الله، يوم الدين، حين تنصب موازين الأعمال)، و"تعدد الزوجات ليس أصلاً" (الأصل في الإسلام أن المرأة كفاءة للرجل في الزواج)، و"الطلاق ليس أصلاً" (الأصل في الإسلام ديمومة العلاقة الزوجية بين زوجين، ذلك بأن زوجتك صنو نفسك)، و"الحجاب ليس أصلاً" (الأصل في الإسلام السفور، لأن مراد الإسلام العفّة، وهو يريدها عفّة تقوم في صدور النساء والرجال، ولا عفة مضروبة بالباب المقفول، والثوب المسدول)؛ وأخيراً "المجتمع المنعزل رجاله عن نسائه ليس أصلاً في الإسلام" (وما يُقال عن السفور يُقال عن الاختلاط).

وتقوم الرسالة الثانية على "المساواة الاقتصادية: الاشتراكية"، و"المساواة السياسية: الديمقراطية"، و"المساواة الاجتماعية: محو الطبقات والفوارق".

وعلى رغم الضغوط وتنامي الصراع بين طه وحزبه من جهة والإسلام السياسي والإسلام الرسمي من جهة أخرى، إلا أن حزبه انتشر، وبات حاضراً في السياسة وفي المجتمع. وقد نشط أعضاؤه، من النساء والرجال على حد سواء، بالدعوة والتواصل المباشر مع الناس. وعرف طه، وفق أسماء طه والنور حمد، "بشجاعته في إبراز تناقضات المفاهيم الإسلامية السلفية، مع واقع الحياة المعاصرة".

وفي بداية الثمانينيات، رفض طه الإجراءات البوليسية والقمعية التي مارسها حكم النميري. فاعتُقل وأعدم في 18 كانون الثاني 1985، قبل نحو ثلاثة أشهر من انتفاضة شعبية دفعت قائد الجيش إلى إعلان تنحية النميري.



محمد باقر الصدر



محمد باقر الصدر: منازلة الغرب على أرض الإسلام

لم يطرح محمد باقر الصدر (العراق، 1935 - 1980) سؤال التجديد على الإسلام، بل بادر باكراً إلى الإجابة عن أسئلة اعتبر هو أنها ضرورية. رأى أن الإسلام يُزاحَم على أرضه وفي أمته المستعمرتين بفلسفات ومناهج اقتصادية مستوردة، فألف «فلسفتنا» و»اقتصادنا». و»نا» نحن ليست عابرة، ولا تدل على موقف فحسب، بل تقول إن لدى المسلمين منهجاً اقتصادياً وفلسفة يناظران المناهج الأخرى السائدة في العالم الغربي، وتتمدد إلى مساحة الأمة الإسلامية أرضاً ومجتمعاً وفكراً وحضارة. وإضافة إلى ذلك، لهذه الـ»نا» نحن وظيفة عقائدية ووجدانية تشد العصب الجماعي.

فالصدر، الذي رأى أن الإسلام مستهدف، تكوّنت فيه الأبعاد الفكرية والإيمانية والسياسية معاً، ولم ينفصل بُعدٌ عن الآخر. فهو مفكر ومجتهد ديني وسياسي. لم يكتفِ بإعداد مقررات جديدة لطلاب الحوزة في النجف حيث كان يدرّس، ولم يؤلّف كتباً وكراريس عن الإسلام والمذهب فحسب، ولم يتوقف عند تأسيس تجمع للعلماء كي يواجهوا مدَّ العقائد الغربية ومنها الشيوعية، بل رعى تأسيس حزب الدعوة الإسلامية وبقي يجاهر بمواقفه في ظل نظام البعث.

وإضافة إلى «اقتصادنا» و»فلسفتنا»، وضع كتاب «الأسس المنطقية للاستقراء». وفيما تنامى السؤال، في العراق وخارجه، في الأوساط الدينية والشعبية، عن رأي الإسلام في المصارف وأنظمتها، أعد كتاباً عن البنك اللاربوي.

وتصدّى الصدر في «فلسفتنا» لعرض «مجموعة مفاهيمنا الأساسية عن العالم، وطريقة التفكير فيه». وقدّم فيه «نظرية المعرفة» و»المفهوم الفلسفي للعالم». وتناول، في المسألة الثانية، الأهم بالنسبة إليه، المفاهيم الفلسفية المتصارعة في الميدان، وحدودها. وتوقف مليّاً عند الديالكتيك، «بصفته أشهر منطق ترتكز عليه المادية الحديثة اليوم». فدرسه «دراسة موضوعيّة مفصّلة بكل خطوطه العريضة، التي رسمها هيغل وكارل ماركس، الفيلسوفان الديالكتيكيان». وتطرّق لـ»مبدأ العلية وقوانينها التي تسيطر على العالم، وما تقدّمه لنا من تفسير فلسفي شامل له».

وبأسلوب العرض وتقديم الحجة المنطقية خاض ما يسمّيه «المرحلة النهائية من مراحل الصراع بين الماديّة والإلهية» (المادة أو الله). وهدف من خلال ذلك إلى «صوغ مفهومنا الإلهي للعالم، في ضوء القوانين الفلسفية، وفي ضوء مختلف العلوم الطبيعية والإنسانية». وبعد ذلك، درس «أهم المشاكل الفلسفية، أي الإدراك، الذي يمثّل ميداناً مهمّاً من ميادين الصراع بين المادية والميتافيزيقية».

واللافت في كتاب «اقتصادنا» أن الصدر لا يذهب إلى عقد مقارنة بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي، إنما يسعى إلى جذب الاقتصاد الأوروبي بكلا جناحيه الرأسمالي والاشتراكي لامتحانه في معركة العالم الإسلامي ضد التخلف الاقتصادي. وعلى أرض المعركة تلك يقدم الاقتصاد الإسلامي ليفحص مدى قابلية كل واحد من هذه المناهج ليكون إطاراً لعملية التنمية الاقتصادية. وفي هذا الأمر تكتيك ذكي يفحص فيه الرأسمالية والاشتراكية على أرض الإسلام وأسئلتها الاقتصادية والتنموية وحتى العقائدية والإيمانية. ولا يقل عن ذلك أهمية أن الصدر لا يدعي أن الاقتصاد الإسلامي علم بل هو منهج. وفي هذا دقة تُحسب له، مثلما يُحسب له حشد شروط المواجهة.

فكتاب «اقتصادنا»، وغيره في الشأن الفلسفي والمنطقي والمعرفي والقانوني الدستوري والفقهي والإيماني والثقافي... يندرج ضمن المشروع السياسي الذي عمل الصدر لبنائه في الطريق للوصول إلى السلطة. فالصدر يعتقد أنه يجب أن يكون للأمة «اقتصادنا» و»فلسفتنا» الأصيليين. وفي هذا مقاومة للاستعمار وفلسفاته ومناهجه التي ربما تنفع في أرضه لكنها لا تنجح في أرض الإسلام. وكذلك هو نقد للأنظمة ذات الأيديولوجيات والمناهج الاقتصادية المستوردة (الرأسمالية والاشتراكية)، ومنها النظام البعثي في العراق، إذ إنها بالنسبة إلى الصدر شبه أجنبية عن الواقع «الإسلامي».

بناء على هذا كلّه، أعلن الصدر تأييد الثورة الإسلامية في إيران. وما إن فعل حتى أعدمه نظام صدام حسين وأخفى جثّته (1980).



محمد عابد الجابري



محمد عابد الجابري: نقد العقل أو التحكّم به؟

بدأ صعود نجم المفكر والباحث محمد عابد الجابري (1935 - 2010) في أوائل الثمانينيات. وكان لافتاً، في 1984، تقاطع عنوان كتابه "تكوين العقل العربي" (الجزء الأول من مشروع "نقد العقل العربي")، مع عنوان كتاب "نحو نقد العقل الإسلامي" لمحمد أركون.

وليس هذا وحده ما جمع المفكرين. تلقفُ فئات واسعة من الباحثين والمثقفين والقراء لأعمالهما مساحة مشتركة بينهما أيضاً. إذ وُجد فيهما باحثان أكاديميان متمكنان من أدواتهما المنهجية، ويُعيدان قراءة التراث والتاريخ والعقل العربي الإسلامي، ربطاً بإنتاج مشروع نهضوي عربي إسلامي. وهذا بعض ما كان يبحث عنه كثيرون، وسط ترنّح الأيديولوجيّات في العالم عموماً والبلدان العربية ضمناً، ومع انهيار الاتحاد السوفياتي وتراجع الماركسية، وصعود الإسلام السياسي الإيراني والإخواني و"الأصولي" المتشدد الذي تحوّل صدامياً مع الغرب وانغلاقياً وتبسيطيّاً بل إفقارياً من الناحية الثقافية والروحيّة.

مهّد الجابري لمشروعه "نقد العقل العربي" بإنجاز "قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي" تحت عنوان "نحن والتراث. وقد تجاوز في تلك القراءات البحث الوثائقي والدراسة التحليلية إلى اقتراح تأويل يُعطي للمقروء معنى. إذ سعى، كما قال، إلى وصل المقروء بالقارئ الحالي وليس بزمنه (المقروء: التراث) فحسب.

وبعد قراءة التراث، التي ترافقت مع عمله لإعداد كتب فلسفية مدرسية ومع نشاطه السياسي في حزب يساري، شن الجابري هجوماً على "الخطاب العربي المعاصر"، مركّزاً على نقد الخطابات الأربعة السائدة، وهي: النهضوي، السياسي، القومي والفلسفي. ودعا من خلال نقده القراءات الأيديولوجية للتراث إلى القراءة المعرفية. وهو ما يساجل في شأنه كثيرون ويشكك في التزام الجابري به.

ومن الأعمال الأولى للجابري اتضحت استراتيجيّته التي تجعل منهجية قراءة التراث تولد منهجية لقراءة الراهن والـ"ما بعد"، وتسهم في تشكيل مشروع نهضوي.

وينطلق الجابري من أن "نقد العقل جزء أساسي أوّلي من كل مشروع للنهضة، لكن نهضتنا العربية الحديثة جرت فيها الأمور على غير هذا المجرى. ولعل ذلك من أهم عوامل تعثّرها المستمر إلى الآن، وهل يمكن بناء نهضة بغير عقل ناهض، عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآليّاته ومفاهيمه وتصوّراته ورؤاه".

لهذا، بحث في الجزء الأول من مشروعه "تكوين العقل العربي"، وفي الجزء الثاني حلل ونقد بنية العقل العربي وهي نظم المعرفة في الثقافة العربية، وخصّص الجزء الثالث للعقل السياسي العربي (محدداته وتجلّياته)، ليصل في الجزء الرابع إلى العقل الأخلاقي العربي.

ويرى الجابري أن هناك ثلاثة أنظمة معرفية تحكم العقل العربي، هي: البيان والعرفان والبرهان. وقد رسمت هذه الأنظمة حدود العقل فأصبح يفكّر بواسطتها وداخلها، وتحول الزمن الثقافي إلى زمن تقليد وتكرار. ويعتبر الجابري أن هذا ما جعل العقل والحضارة الإسلاميين فقهيين.

وفيما يقول الجابري إنه لا يمارس النقد من أجل النقد بل "من أجل التحرر مما هو مميت أو متخشّب في كياننا العقلي، وإرثنا الثقافي"، يعلن هدفه من ذلك، وهو "فسح المجال للحياة كي تستأنف فينا دورتها، وتعيد فينا زرعها".

ويأخذ جورج طرابيشي على نقد الجابري للعقل العربي كونه "غير نقدي". ويعتبر أن الجابري قد أسر العقل العربي في إشكاليات مغلقة. وتوقف طرابيشي عند "اصطناع" مشروع الجابري "قطيعة معرفية بين فكر المشرق وفكر المغرب، وعلى التمييز بين مدرسة مشرقية إشراقية ومدرسة مغربية برهانية، وعلى التوكيد على أن رواد المشروع الثقافي الأندلسي- المغربي (ابن حزم وابن طفيل وابن رشد وابن مضاء القرطبي والشاطبي) تحرّكوا جميعهم في اتجاه واحد هو اتجاه رد بضاعة المشرق إلى المشرق، والكف عن تقليد المشارقة، وتأسيس ثقافة أصيلة مستقلة عن ثقافة أهل المشرق.

وانتقد المفكر فتحي التريكي فكرة الجابري بوجود "عقل عربي وآخر غربي". وتحفّظ المفكر علي حرب على اعتماد الجابري مصطلح "العقل"، داعياً إلى استخدام مصطلح "الفكر" لأن العقل واحد وإن اختلفت آلياته ومناهجه وتجلياته.

وفي سنواته الأخيرة انكب الجابري على تأليف كتب تفسير للقرآن، بحسب ترتيب نزول السور، واعتمد فيها أسلوباً مدرسيّاً يقوم على عرض مصادر تراثية مع ملاحظات بسيطة. وقبل ذلك دعا الجابري إلى الابتعاد عن المفردات والمفاهيم "الاستفزازية" مثل العلمانية، واستبدالها بالديمقراطية. وهذا ما عدّه البعض تراجعاً من الجابري ورضوخاً لضغوط "الإسلاميين"، خصوصاً أن لكل من العلمانية والديمقراطية معناها وحقل عملها.




محمد أركون



محمد أركون: تاريخ آخر للفكر الإسلامي

تجرّأ محمد أركون (1928 - 2010)، في الثمانينيات من القرن العشرين، على الدعوة إلى إحياء الاجتهاد في الفكر الإسلامي المعاصر وتطبيق العلوم الاجتماعية الحديثة على التراث الإسلامي، مثلما حصل ويحصل مع التراث المسيحي، واليهودي إلى حدٍّ ما، وهو ما سمّاه «الإسلاميّات التطبيقية».

واستند أركون في دعوته تلك إلى أن الإسلام يُستعمل كوسيلة أيديولوجية أكثر مما هي وسيلة علمية. واعتبر أن هناك طغياناً للأيديولوجيا وللتيار الذي يبحث عن الهوية ويبنيها بوسائل ميثولوجية وأيديولوجية عوضاً عن أن يتسلّح بالعلم. وانتقد، في كتبه الأولى وأبرزها «تاريخية الفكر العربي الإسلامي»، المؤرّخين الإسلاميين لعدم استعمالهم علم التاريخ. وكذلك انتقد إبقاء علم الأصول أمراً غير مفكّر فيه.



وقامت في وجهه ثورة قادها تيار الإسلام السياسي والإسلام التقليدي الذي يسميه أرثوذكسيّاً. ووصل الأمر إلى حد تكفيره. وإذ كان أركون منذ البداية وخلال ترجمة كتبه إلى العربية (هاشم صالح) يدرك أن أفكاره صادمة متخوّفاً من «سوء فهمها» أو ردة فعل تجاهها، تركّزت عليه حملة تصفه بأنه يعتبر القرآن أسطوريَّ البنية وقصصه مجرّد أساطير وأن استنباط الأحكام الشرعية منه مهمة مستحيلة. وإذ أحرجه ذلك حرِصَ على أن يحمي بحوثه وعلميّتها، وفي الوقت نفسه راح يبحث مع المترجم عن مصطلحات وتعابير «أكثر دقة». فواجه مشكلة إيجاد ذلك في القاموس العربي، إذ إن أركون، كما قال غير مرّة، يكتب بالفرنسية (والإنكليزية) التي طوّرت قاموسها العلمي.



وبينما لم يتراجع أركون عن أي من أفكاره، لم يخفِ مرارته من صعوبة التواصل مع القارئ العربي والمسلم، بسبب اللغة ومشاكلها وبسبب الإطار الذي وُضع به كمفكر مستغرب خارج على الإسلام وحانق عليه. وفي هذا الشأن اعتبر أن هناك «صعوبات معرفية» تحول بينه وبين التواصل مع الجمهور الإسلامي العريض. وأعاد ذلك (قضايا في نقد العقل الديني) إلى العقبات الراسخة في العقول، والتي دعا إلى زحزحتها وإزالتها. وقال إن المعرفة الصحيحة لا يمكن أن تنهض إلا على أنقاض المعرفة الخاطئة.



وفي مذكّراته التي صدرت تحت عنوان «التشكيل الإنساني للإسلام»، يروي أركون المنحدر من القبائل في الجزائر كيف أنه رفض في شبابه الهوية الإسلامية الواحدة الموحدة التي سعى الحزب الحاكم في الجزائر إلى فرضها لاغياً وحاجباً التنوّع ومانعاً الاجتهاد. لكنّه يحرص على أن موقفه ليس ردّة فعل إنما ناتجة من بحث ودراسة ومن رغبة في تحديث الدين وعصرنته بهدف تطوير المجتمعات العربية والإسلامية وحريّة إنسانها.



ودعا أركون إلى «تاريخ آخر للفكر الإسلامي»، معتبراً أن ذلك مستحيل في ظل سيطرة «الفكر الأصولي». ورأى أن ما يصلح للعصور الإسلامية الأولى لم يعد يصلح للعصور الحديثة. وكرّر أركون في غير كتاب ومناسبة دعوته إلى «أنسنة» الفكر العربي - الإسلامي، معتبراً أن الفكر الفلسفي العقلاني قد ضمر في الساحة الإسلامية منذ القرن الـ13 ميلادي (السابع هجرياً). بعدما كان أنتج في القرنين التاسع والعاشر للميلاد (الثالث والرابع للهجرة)، تياراً تنويرياً هو حصيلة تزاوج الفلسفة الإغريقية مع التراث العربي- الإسلامي. وقد أسس أركون بناء على هذا الرأي مقولة أن التراث الديني وحده لا يكفي لتوليد تيار عقلاني يحترم إمكانيات الإنسان ويثق بها. وإنما ينبغي أن يخصّب ويتفاعل مع تيار فلسفي قوي يعطي العقل حقوقه في الكشف المعرفي والإبداع الفكري.



وفيما حاول أركون التأسيس لـ»قراءة علمية» للفكر الإسلامي، خص البحث في القرآن بكتابات عدة. وكتابه «قراءات في القرآن» (1982) أساسي في مساره الفكري، وقد اعتبره البذرة الأولى التي صدرت عنها مؤلّفاته اللاحقة، فيما اعتبره البعض «الوصيّة الفكرية الأخيرة لأركون».

وفيما نُظر من الزاوية الإسلامية المحافظة إلى أركون باعتباره غربي المناهج واللغة، والغايات أحياناً، لم يتردد أركون في نقد النظرات الغربية للإسلام، سواء أكان الاستشراقية القديمة التي أخضعها للتشريح العلمي أم السياسية والأيديولوجية الراهنة (الإسلاموفوبيا). فأركون، كما يقول، كان «قاسياً» مع القارءين الغربي والمسلم.




طه عبد الرحمن


طه عبد الرحمن: الفيلسوف الصوفي

لا يُخفى انحياز طه عبد الرحمن (مواليد 1944) إلى الدين، لكنّه ليس مفكّراً تقليديّاً أو ممن يكتفون بالسائد ويكررونه. طه عبد الرحمن يطرح ويولد أسئلة ويجتهد لبناء أجوبة.

والانحياز إلى الدين أخرجه من السجال بشأن الإسلام والتجديد والتحديث والتنوير وما إلى ذلك. لكن ذلك لا يعني أنه في "معسكر" الدين السياسي أو "جنة" الدين الرسمي، وغيرهما، وإن تلقى أطروحاته قبولاً في المساحات التي تتأثر بهذا التيار وتلك المدرسة. ففيما الأجواء والأوساط الإسلامية ترتاح إلى عبد الرحمن، لكونه في صميم الدين والتدين، تختلف أطروحاته عن الإسلام السائد. فهو يقف على أرض الإسلام، أو قل القرآن، ويحفر وينقّب ويستخرج ويُنتج بعدة الفلسفة وروح المتصوّف؛ ويقف على أرض الفلسفة بروح الدين وطاقاته وفاعلياته؛ ويقف على أرض السياسة وكل ما يتعلّق بالإنسان وعلاقاته (وهي عنده علاقة بالله أولاً وأخيراً) بروح الأخلاق.



فأثناء انشغاله في بداياته في السجالات بشأن كيفية مقاربة التراث، منتقداً النظرة التجزيئية والتفاضلية (عند الجابري وأركون وآخرين)، ظهرت ملامح نظرياته الخاصة. وذلك من خلال طرحه "النظرة الشمولية التكاملية لتجديد المنهج في تقويم التراث". وأخذ ذلك بالتبلور في بحوثه "عن الاستدلال في النص الخلدوني" و"لغة ابن رشد الفلسفية" و"مفهوم البنية بين الرياضيات والمنطقيات"، وفي اقتراحه "تجديد النظر في إشكالية السببية عند الغزالي ونظرية العوالم الممكنة". وكذلك في أعماله الأخرى ومنها "في أصول الحوار وتجديد علم الكلام" و"العمل الديني وتجديد العقل".



بعد هذه المسيرة التي كان فيها أكاديميّاً، انكب على إنتاج فلسفته الخاصة. وضع ما سماه "النظرية الائتمانية" التي تجمع بين روح التفلسف وروح التديّن. وإن كان عبد الرحمن يخوض من خلال "النظرية الائتمانية" المعارك مع العلمانية و"الدهرانية" (فصل المجال الأخلاقي عن الدين)، ومع "المروق" (الخروج من الدين المترتّب على إنكار آمرية الإله)، ومع "الشرود" (الخروج من الأخلاق المترتّب على إنكار شاهدية الإله)، و"العبودية الفكرية" (تقليد مثقفي الأمة لمفكري الدهرانية والعلمانية)... إلخ، إلا أنها ليست "برداً وسلاماً" على السائد من الدين. هي كذلك وإن لم يخض عبد الرحمن معارك مع المدارس والتيارات الإسلامية، أو لم تعارضه تلك المدارس والتيارات. فعبد الرحمن الذي تقوم نظريته على الأخلاق وترفع من شأنها، بل هي أخلاقية بالدرجة الأولى، يفترق بمنطلقاته واستنتاجاته عن الإسلامات السائدة. ويمكن الاستدلال على ذلك في كتابه "ثغور المرابطة: مقاربة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية"، وفي المؤلّفات التي يبلور فيها "المفاهيم الأخلاقية الائتمانية".



لكن انتماء عبد الرحمن إلى الدين أوقعه في خريطة "الذات - الآخر". ففيما يتحدّث عن دين عالمي أو كوني يُحسب ويُنظر إليه على أنه في موقع "الذات - الإسلام" في مواجهة "الآخر - العلمانية". وبتلك النظرة "السطحية" لا يتملَّك عبد الرحمن (من جانب الذات) فحسب، بل تُعطّل مفاعيل نظريّته الكونية والأخلاقية. وهذا من خصوم النظرية الائتمانية التي تستدعي الأمانة والعلمية أن تُقرأ من خارج "الذات - الآخر".

ويمكن الاستعانة، في هذا الصدد، بكتاب عبد الرحمن "الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري" الذي ينطلق من سؤال "هل للأمة الإسلامية جوابها الخاص عن أسئلة زمانها؟". فعلى رغم أنه يتحدث عن "أمة"، ما يستدعي شبح "الذات - الآخر"، إلا أن الجواب يتحرر من أسر "الذات - الآخر". فعبد الرحمن يعتبر أن هناك شرطين للجواب "الإسلامي" عن ذاك السؤال، وهما: الإيمان (ومنه تجديد النظر في الآيات والنفاذ إلى أعماقها)؛ و"التخلّق في التعامل مع مختلف الأشخاص والأمم"، أي "بالعمل التعارفي بوصفه مؤسساً للعمل التعاوني. وهو يحمل جوهر التواصل مع كل البشر وتقبّل الاختلاف عنهم".



وها هو عبد الرحمن، في كتاب "الحق العربي في الاختلاف الفلسفي"، يؤكد على ثبات حق الاختلاف الثقافي لأمم العالم كلها. فعبد الرحمن، وهو ابن هزيمة 1967، يعتبر أن العرب والمسلمين لكونهم متقهقرين متراجعين هم في موقع الساعي إلى الحرية والمطالب بحق الاختلاف والتعدد في العالم الذي يحاول المنتصر والسيد فيه فرض ثقافته وأحاديته. ومن هذا الموقع، ينتقد عبد الرحمن العبودية الفكرية. ومن هذا الموقع أيضاً يدعو إلى التفلسف العربي والإسلامي الحر والمتعدد الذي لا يكتفي بالترجمة "التحصيلية والتوصيلية" بل يؤسس ترجمة "حيّة وتأصيلية" (فقه الفلسفة). وفي هذا السياق توضع نظريته الائتمانية التي تعتبر أن روح الدين والأخلاق هما ما يجعلانها تتفوق على العلمانية، وهما ما يجعلان للأمة العربية موقعاً في العالم المتعدد المعترف بالاختلاف.



إنطلاقاً من هذا، عمل عبد الرحمن ليس لتوطين الفلسفة في أرض الإسلام والمسلمين فحسب، إنما لإعمال المنطق وإطلاق الروح وإعادة الاعتبار للأخلاق أيضاً.

يبقى أن عبد الرحمن الذي عانى في طفولته من تلعثم وإخفاق تعليمي ما دفع والده إلى الاستعانة بدرويش كي يبارك ابنه ويخرجه من عجزه (وأثر ذلك في شخصية عبد الرحمن)، أستاذ في المنطق ويحرص على القول الفلسفي بلغة عربية. فتراه يشتق المفاهيم والمصطلحات والمفردات التي تقابل القاموس الفلسفي "الغربي". لكأن تلك المفاهيم والمصطلحات والمفردات أسس ومداميك وقطع يشيّد بها عمارته. وكذلك القارئ، إذا ما عرف تلك المفاهيم والمصطلحات والمفردات، ونفذ إلى أعماقها، بانت أمامه عمارة عبد الرحمن. وهذا أمر ضروري. فمعرفة واحدة من أهم الفلسفات أمر لا بد منه للمسلمين قبل غيرهم.




حسن حنفي



حسن حنفي: إرتباك فوق أرض غير مستقرة

وسط هذا، يُلاحظ بقوة تأثر الإنتاج الفكري في مصر بالوضع السياسي. بدأ ذلك منذ هزيمة 1967 مروراً باتفاق السلام مع إسرائيل وخروج القاهرة من الفضاء العربي، واغتيال المفكّر فرج فودة، ومحاولة طعن الأديب نجيب محفوظ، وتكفير الباحث نصر حامد أبو زيد...، وتراجع عدد من المفكرين اليساريين عن أفكارهم و»عودتهم» إلى الإسلام (محمد عمارة وعبد الوهاب المسيري على سبيل المثال لا الحصر)، وصولاً إلى الربيع العربي وتجربة الإخوان المسلمين في الحكم، ثم إزاحتهم.

إزاء ذلك، جاهد المفكّر حسن حنفي (1935 - 2021) على أرض غير مستقرة وغير آمنة للاستمرار وإنضاج مشروعه الفكري، الذي تمحور حول التراث والتجديد، والتوفيق بين اليسار والإسلام (لاهوت التحرير)، وأخيراً «علم الاستغراب» في مواجهة الاستشراق. ويلفت الانتباه أنه فيما لم يُستقبل مشروع حنفي بشأن «التراث والتجديد» بتقدير في الأوساط الأكاديمية، خارج مصر، لم يجد «علم الاستغراب» صدى، أما «اليسار الإسلامي» فيُسأل أين هو وما هو تأثيره وحضوره؟



ويلاحظ السيد ولد أباه أن حنفي، بخصوص «العلاقة بالتراث»، «يعتمد منهجاً يقوم على الاستيعاب الإيجابي، بإعادة بناء مضامين علومه العقلية والنقلية انسجاماً مع متطلّبات النهوض والتجديد. إنه لا ينظر إليه كنص مفصول عن الواقع». فالتراث عنده «هو ما يصل إلى شعب ما مما خلّفه القدماء وتتوارثه الأجيال، ويحدث لتيارات عامة واتجاهات ومدارس فكرية ويؤثّر في سلوك الناس».

ويتبدّى التوفيق بين اليسار والإسلام، في نزوع حنفي إلى «نقل علم الكلام من بعده اللاهوتي ليصبح أنثروبولوجيا تبحث في الإنسان الكامل، بدل مباحث الذات والصفات التي يجب أن تمنح الإنسان، وبدل الدفاع عن التوحيد الذي يجب أن يُستبدل بالدفاع عن الأرض. وهكذا يصبح علم أصول الدين «هو العلم الذي يقرأ في العقيدة واقع المسلمين من احتلال وتخلّف وقهر وفقر وتغريب وتجزئة ولامبالاة».



ويلفت ولد أباه إلى أن «المشروع النظري» لحنفي هو مادة مشروعه السياسي الذي أطلق عليه «اليسار الإسلامي». وهو «إطار جامع لكل التيارات الفاعلة في الأمة: الإخوة في الله، الإخوة في الوطن، الإخوة في الثورة، الإخوة في الحرية، ويهدف إلى دفع الإصلاح الديني وتحرير الأرض والقضاء على التفاوت الطبقي. كما أنه يجمع بين الجوانب المشرقة في تراثنا: اعتزالي في العقيدة، مالكي في الفقه والأصول، رشدي في الفلسفة، يرمي إلى نهضة حضارية شاملة تبرز جوانب التقدم في تراثنا القديم وتستبعد منه معوّقاته».

يضيف: «إبتكر حنفي علماً جديداً أطلق عليه علم الاستغراب، أراد منه دراسة الوعي الأوروبي، منطلقاً وخاتمة، مع الوقوف على أزمنة وإبراز الإمكانات المتاحة لتعويضه من خارج الحضارة الغربية. فكما أنشأ الغرب علم الاستشراق ليدرسنا حيث اعتبر نفسه ذاتاً والشعوب موضوعاً. فلا بد أن نجعل من أنفسنا ذاتاً ومن الغرب موضوعاً».



أبو يعرب المرزوقي



أبو يعرب المرزوقي: عكس السير

أبو يعرب المرزوقي (مواليد 1947) مثير للجدل والغرابة على نحو إيجابي. فهذا المفكّر والأستاذ الجامعي يجمع العديد من التناقضات، أو ما تكرّس على مدى عقود كأضداد. هو سلفي وتحديثي، هو ديني وفلسفي، هو إسلامي وعلماني، هو متشدد ومنفتح حواري، وهو إلى هذا كلّه ينطلق من القرآن ويعود إليه وفي الوقت نفسه هو باحث في الفلسفة الأوروبية ومتمكّن من المنهجيات الغربيّة الحديثة في العلوم الإنسانيّة. وفيما يبدو مقيماً في برج المثقفين تراه متصالحاً مع العصر وثقافاته والتكنولوجيا ومتابعاً لكرة القدم، مثلاً، التي يقاربها فلسفياً، فيقول إن اللاعب المصري محمد صلاح له «صفتان خلقيّتان، الأولى هي أنه كي يبقى رياضيّاً ويؤدّي هذا الدور يبتعد عن المفاسد. وهذه صفة خلقية تتعلق بالسلطان على الذات. والصفة الثانية هي أنه يتحمّل مسؤولية رمزيّة إذ يشعر في أي مكان هو فيه أنّه ممثّل لمصر وللعرب». أو أن يقول إن «القرآن الذي يفسّر نفسه، اختار لغتين، هما اللغة العربية واللغة التي لا تحتاج إلى تفسير: القرآن سينما صامتة. بمعنى أنه يكفي للإنسان أن يرى المشاهد الموجودة في القرآن».



ومن الغرابة والجدل اللذين يثيرهما المرزوقي، أنّه سار منذ بداياته في ثمانينيات القرن العشرين عكس التيار. ففي حين كان المزاج الغالب في مقاربة التراث يحتفي بابن رشد باعتباره ذروة «العقلانية» والانفتاح في مقابل «ظلامية» الغزالي و»انغلاقه»، عارض المرزوقي ذلك منحازاً، مثل الشيخ محمد عبده، إلى الغزالي وابن خلدون وابن تيمية. واعتبر أن الإبداع الفلسفي في التراث الإسلامي العربي كان أقوى في علم الكلام وليس في الفلسفة.

وفي هذا السياق، خصص المرزوقي، الذي ينتقد وقوع كثيرين من المفكّرين العرب الحديثين تحت تأثير الفكر الغربي، أعمالاً عدة لمعالجة نتائج الفلسفة اليونانية في الفكر الإسلامي، ميتافيزيقيّاً ومنطقيّاً. وفي عمليه الموسوعيين «تجلّيات الفلسفة العربية» و»إصلاح العقل في الفلسفة العربية»، يقدّم أطروحة تقوم على أن الغزالي وابن تيمية وابن خلدون قدّموا حلّاً للمأزق الناتج من تأثير أفلاطون وأرسطو ورفاقهما.



ويعتبر المرزوقي الذي يعارض ثنائية غربي - شرقي «المزيفة»، أن الغزالي الذي «رفض العامل الأجنبي» (في حين «تبنّى ابن رشد الفكر الأجنبي») أسس لـ»التأليف بين الفكرين الفلسفي والديني... وحاول تحرير فكرنا من الصراع بين الفقه والتصوّف حول الفلسفة العملية والشريعة وبين الكلام والفلسفة حول الفلسفة النظرية والعقيدة». ويرى أن نقد الغزالي «لحصر السنة الدين في الفقه وحصر الشيعة الدين في السياسة يمثّل بداية جديدة لتجديد النقد الذي ينبغي أن يبنى عليه فكر الصحوة».

ويصف المرزوقي «مشروع» ابن تيمية بأنه «يمثّل تشخيصاً نظريّاً نقديّاً هدفه تجاوز الميتافيزيقا الفلسفية التي فرضها ابن رشد والسهروردي فلسفة كونية وحيدة والميتافيزيقا الدينية التي فرضها ابن عربي والرازي ديناً كونيّاً وحيداً. فكان البديل المعرفي والوجودي همّه الأوّل لكن قصده العميق كان تأسيس الأخلاق والإيمان على الحرية الإنسانية والمسؤولة».



ويرى المرزوقي، وفق السيد ولد أباه، أن ابن خلدون «بلور نزعة اسمية عملية بتحرير النظرة للطبيعة والتاريخ، خارج قيود الميتافيزيقا الأفلاطونية الأرسطية التي لا تترك مجالاً لتطوير العلم وحرية الإنسان».

بناء على هذا، خلص المرزوقي إلى أن المشروع النهضوي العربي يحتاج إلى استئناف المشروع الخلدوني التيمي.

إضافة إلى هذا، ينتقد المرزوقي «التصورات التقليدية» بشأن الإسلام. ويرفض «وجود وسيط بين الإنسان والقرآن». أما إذا كان الإنسان لا يقرأ فـ»عندئذ يحتاج إلى معلّم في اللغة وليس إلى من يكتب عقيدة. هناك فارق بين من يعلّمني القرآن وبين من يكتب لي عقيدة. أنا لا أفهم كيف يوجد إنسان يدّعي أنه سيكتب عقيدة أوضح وأبلغ من القرآن أو مما شرحه الرسول!».



ولا يُستفز المرزوقي من صفة العلماني التي تأتيه من علمانيين وإسلاميين على حد السواء. ويرد على ذلك بالقول: «لا أستطيع أن أصنّف نفسي إلا إذا صنّفنا الإسلام على أنّه علماني في ما يتعلّق بقضية الحكم. لأنه إذا صنّفنا نظرية الإسلام في الحكم فسنقول إن الإسلام أقرب إلى العلمانية من الدولة الدينية. ولو اعتبرنا دستور الرسول ممثِّلاً القراءة النبويّة لطبيعة الدولة كما ينبغي أن تكون بمقتضى القيم الإسلامية والقرآنية، فإننا سنجد في هذه الدولة المسلم واليهودي والمسلم المهاجر والمسلم المناصر وغيرهم. وبين هؤلاء كُتب عقد يهتم بقضيّتين هما مهمّة السياسة: الحماية في الداخل؛ والحماية الخارجية. وفي ما عدا ذلك، في حياتهم الروحيّة والخلقية والأسرية، كلٌّ بحسب معتقداته... والدليل هو أن الرسول عندما احتكم إليه اليهود كي يحكم في ما بينهم رد: لماذا لا تحتكمون إلى شريعتكم؟».



يضيف: «ثم إن الآية 48 من سورة المائدة تعلل تعدد الأديان بكونه شرطاً لأمرين، هما أولاً كي يكون التديّن بحريّة وليس جبراً؛ وثانياً كي يقع التنافس، والإنسان يختار بين الأديان... وبهذا المعنى، يمكن أن أقول إن رؤيتي إلى رؤية الإسلام للدولة أقرب إلى العلمانية منها إلى ما يتصوره البعض في الحركات والاتجاهات الإسلامية».

وليس بعيداً من هذا، يقول: «ما كنت لأكتب حرفاً واحداً في الفكر الإسلامي لو لم أكن أعتقد أن الفكر الإسلامي من أساسه اعتماداً على القرآن نفسه لا يمكن أن يكون إلا متعدداً. القرآن يؤسس لفكر متعدد، ويعتبر تعدد الأديان شرطاً لحريّة المعتقد».



ولا بد من الإشارة إلى أن المرزوقي الذي كان في شبابه ناشطاً في حزب الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، اختير ليكون عضواً في المجلس التأسيسي بعد الثورة في 2011 ممثلاً حركة النهضة الإسلامية، وقد اعتزل السياسة بعد عامين. ويفترق في رأيه بخصوص بورقيبة عن موقف «الإسلام السياسي» المعارض لعلمنة تونس. وعلى رغم محاولته صوغ موقف علمي من تجربة بورقيبة إلا أنه لا يفصل ذلك عن تقييمه السلبي للتجارب العلمانية في البلدان الإسلامية ومنها تونس وتركيا.

يُذكر أن المرزوقي الذي يُخرج العقود الأولى من الإسلام من دائرة النقد، يحمّل «العلماء» المسلمين مسؤولية ما لحق بالإسلام من مفاهيم خاطئة.




محمد شحرور



محمد شحرور: قراءة معاصرة تنافس الشعبوية

بدأ محمد شحرور (1938 - 2019) رحلة البحث في القرآن عقب هزيمة 1967، وبدأ يبرز بعد الهجوم على برجي التجارة العالمية في نيويورك في 11 أيلول 2001، في زمن «مشايخ القنوات الفضائية العربية» و»فتاوى ما يطلبه المشاهدون». ولعل هذه قيمته الأولى والأهم، إذ وقف في وجه تلك الظاهرة الشعبوية.

وشحرور باحث يختلف عن المفكرين الذين انشغلوا بإشكاليات التجديد، والأصالة والمعاصرة، والتراث والحداثة، وما إلى ذلك. فهو وصل إلى البحث في كتاب المسلمين، خلال بحثه عن أسباب الهزيمة والتخلّف، إذ سمع من ماركسيين وعلمانيين نقداً للإسلام باعتباره مسؤولاً عن ذلك، فيما سمع من رجال دين مسلمين كلاماً غير عقلاني في تعليل الهزيمة والتخلف.



وفي رحلة البحث هذه، تبلور هدف شحرور ومنهجه، اللذين لم يغادرا أسئلة البدايات ومساحاتها. فخلال بحثه الذي لم يذهب إليه محمّلاً بأيديولوجيا أو أحكام مسبقة، توصّل إلى أن هناك خطأ كبيراً في فهم القرآن، وبالتالي الدين الإسلامي، من جهة الماركسيين والعلمانيين ومن جانب كثيرين من رجال الدين والمسلمين على حدّ سواء.

وفيما راح يعيد قراءة القرآن اهتم بتطوير منهجه، مستفيداً من كونه مهندساً درس في الاتحاد السوفياتي ثم في إيرلندا، ومنفتحاً على العلوم الحديثة ومنجزاتها. ومنذ البداية، لم ينشغل شحرور بالسجالات في شأن الإسلام والتجديد وغير ذلك، إنما تجرّأ على إعلان إنتاج قراءة عصرية للقرآن وشروعه بتأسيس أصول جديدة للفقه الإسلامي. وقد تصدّى لعناوين وموضوعات سجالية شائكة تتعلّق بالمرأة والوصيّة والإرث والتعددية واللباس.



هكذا، ومن كتاب إلى برنامج تلفزيوني، بات شحرور شخصاً مدنياً في بحر رجال الدين، بل «عالم دين» غير تقليدي وغير رسمي. وقد استساغ كثيرون ذلك وأن يقرأ مسلمٌ القرآن من دون وصاية مؤسسة رسمية أو مدرسة دينية تنتمي إلى هذا المذهب وتلك الجماعة. وقد توافق ذلك مع رغبات واسعة الانتشار بقراءة وسماع تفسيرات جديدة عصرية منفتحة مدنية وغير عنفية.

ولم يقتصر بروز شحرور على إطلالاته التلفزيونية التي تنافس وتعاكس إطلالات «مشايخ الفضائيات والفتاوى» (يقول مثلاً إن التحريم بيد الله وحده، وإن الآخرين ينهون فحسب). بل ألّف كتباً بمثابة مغامرة بحثية. لقد أعاد قراءة «القصص القرآني» طارحاً فلسفة للتاريخ تنفي التناقض بين القرآن والعلم. وإذ حلل وعارض العقلية التراثية التي تعاملت مع القصص، انتقد اعتماد الأساطير البابلية والتوراتية وتغييب مبدأ البحث والسير في الأرض كمنطلق رئيسي في فهم التاريخ.



كذلك قدّم «قراءة معاصرة» للسنة بشقّيها: الرسولية والنبوية، بديلاً للمفهوم التراثي لها الذي يفيد الاتباع والقدوة والأسوة والطاعة، ويفصّل المقامات المحمدية الثلاثة: الرسول والنبي والإنسان. ويتطرّق شحرور لمفاهيم العصمة والمعجزات وعلم الغيب والشفاعة (السنة الرسولية والسنة النبوية: رؤية جديدة).

وفي «أم الكتاب وتفصيلها» تابع شحرور قراءة التنزيل الحكيم، مطبّقاً منهجه على موضوع المحكم والمتشابه، متتبّعاً المفاهيم التي تحملها هذه الآيات حول هذين المصطلحين، وما يرتبط بهما من مواضيع ذات علاقة كالتأويل والاجتهاد.



وقدم شحرور رؤية جديدة لـ»الكتاب والقرآن». وهي نتيجة بحث عن مفاتيح فهم التنزيل الحكيم التي هي بالضرورة داخله. وأعاد شحرور في هذا المجلّد الضخم النظر في مفاهيم السلف في ضوء النظم المعرفية الحديثة، وأكد أن ذلك ليس تشكيكاً في ذكائهم أو في تقواهم أو حسن نواياهم، بل لإيمانه بأنهم تفاعلوا مع التنزيل الحكيم واجتهدوا ضمن إمكاناتهم وأرضيتهم المعرفية، واليوم لدينا أرضية معرفية مغايرة تسمح بقراءة جديدة معاصرة.




MISS 3