حسان الزين

أميركا وأوروبا تتفوّقان على الصين وروسيا... والتصنيع لا يسدّ الثغرة الثقافية والفنية

وضاح شرارة: لبنان جزء من السلطنة الإيرانـية و"التوجه شرقاً" إعلان فضيحة

27 نيسان 2024

02 : 03

وضاح شرارة

وضاح شرارة، منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي، واحدٌ من أبرز المفكّرين والباحثين والكتّاب، وأكثرهم تأثيراً، خصوصاً بين المثقفين. وعلى الرغم من ابتعاده، منذ نحو خمسة عقود، من السياسة المباشرة وتفرّغه للعمل الأكاديمي والبحثي والصحافي والتأليف، إلا أن لرأيه أثراً وحضوراً لا يُخفيان. وإضافة إلى تنوّع أعماله، من الفكر العربي إلى التاريخ والاجتماع والسياسة والنقد الأدبي والرواية، فإنه ممن يصوغون أفكاراً وينحتون مفاهيم غالباً ما تتحوّل إلى مصطلحات، منها على سبيل المثال «دولة حزب الله»، وهو عنوان كتاب أصدره في 1996. مع مؤلّف «السلم الأهلي البارد» و»في أصول لبنان الطائفي» و»حروب الاستتباع: لبنان الحرب الأهلية الدائمة» و»الأمة القلقة: العامليّون والعصبية العامليّة على عتبة الدولة اللبنانية» و»طوق العمامة: الدولة الإيرانية الخمينية في معترك المذاهب والطوائف» وروايتي «أمس اليوم» و «سمية» وغيرها، هذا الحوار.



كيف تقرأ الأحداث في العالم والمساعي إلى تغيير النظام الدولي الأحادي وأقوال من مثل «أفول أميركا»؟

في مقولة «أفول أميركا» التي يكرّرها الرئيس الصيني شي جينبينغ مخالفة كبيرة عن السياسة الصينية حتى 2012، وبشكل خاص 2008 التي شهدت الأزمة المالية، وفق تأريخ هنري كيسنجر. في تلك الفترة، ظهرت قصة الحلم الصيني الخاصة بجينبينغ، وانتقلت المنافسة لتأخد طابع المواجهة. فالقادة الصينيون، حينها، كانوا يعتقدون أن حلول المسائل موجودة في الغرب، ويهندسون أوضاعم انطلاقاً ممّا سمّاه ماو تسي تونغ عام 1979 «اقتصاد السوق الاجتماعي» الذي هو رأسمالية عادية تأخذ بالاعتبار تراكماً ليس بالضرورة أن يتم بالشكل الغربي. فماوتسي تونغ حاول استنباط مسار خاص للصين يختلف عن التوجه السوفياتي وعن الرأسمالية الغربية. وفيما حمل استنباطه ثقلاً هائلاً للطبقات العاملة الفقيرة والفلاحين، وقدم وصفاً دقيقاً لبلاده، صاغ إضافة يمكن تسميتها أيديولوجية.

يعتبر كيسنجر أن الصين كونفوشيوسية أكثر ممّا هي ماركسية، أي صينية أكثر مما هي ماركسية. ولعل هذا صحيح، لكنّ قسماً من الانعطاف الصيني ما بين 2008 و2012 هو الانتقال من كونفوشيوسية تعطي أهميّة للخلافات والفوارق من دون أن تزعم أو تتّجه نحو حلها وإذابتها، أي البقاء ضمن إطار عام لا يحوّل النزاع تناحرياً، إلى ما يسمّيه جينبينغ استقامة العالم التي تقتضي تجاوز الفروق بين المتنافسين أو المتصارعين، لأنه كما السماء متناسقة (وهذا القول قريب جداً من قول أبو حنيفة) كذلك على الأرض أن تكون متناسقة. وهذه مدرسة موجودة في التاريخ الفكري الصيني المعاصر، ومشرّعوها أكثر حدّة من الكونفوشيوسيين.

هل لدى الصين مؤهلات كي تكون مثل الولايات المتّحدة الأميركية في العالم؟

الجواب عن هذا السؤال كان، لوقت قريب، قريباً من الجواب الصيني، وهو أجل مع أفق 2049، الذكرى المئوية لتأسيس الصين الشعبية. لكن، هناك عوائق داخلية تواجه الصين، أهمها المنحى المركزي المتشدد والانغلاق وتقييد الحريّات. ولعل هذه العناصر المتفاوتة بين قطاع وآخر وفترة وأخرى تخيّب الصعود إلى المرتبة الأولى. أظن أن ما قاله جينبينغ قبل سنوات، وهو أن ما بنته الولايات المتحدة الأميركية خلال 400 سنة بنته الصين في أربعين سنة، يهمل أمراً بديهياً. وهذا الأمر هو أن ما بُني في 400 سنة بُني بطريقة وأسلوب ونتائج سياسية وثقافية يصعب على الصين أن تدّعي أنها بَنت مقابلاً له. ففي مقابل القوى الاقتصادية الواسعة والمتينة التي تنبّه الأميركيون والأوروبيون لها باكراً، لا يقف البناء الصيني على ساقين متساويتين. فما زالت استثمارات الدولة أقوى من الاستهلاك الاجتماعي.

وهناك جانب آخر نادراً ما يُتناول لكنه حاضر في النقاشات المختلفة، وهو ما يسمّيه الأوروبيون والأميركيون «القوة الناعمة». ثمة عمارة هائلة أميركية وأوروبية، ثقافية وفكرية وفنية وغيره. وهذا الامتياز لا تمتلكه الصين. فالصناعة والتكنولوجيا أمر مختلف عن إنتاج الثقافة والفنون. يمكن للصين وغيرها أن تصنع سيارات كهربائية ورقائق وغيرها، لكن ماذا عن الثقافة والفنون؟ هذا سؤال مرتبط بالنظام السياسي ودور الدولة وإذا ما كانا يقيّدانه أو يطلقانه.

وفي هذا العنصر تتفوق أميركا وأوروبا على الصين وروسيا؟

بما لا يقاس. وهنا معنى الـ400 سنة، كعلاقة بين المجتمع والدولة. فللمجتمع كيانه، ويمكن للدولة أن تزوّر وتشوّه وتغامر وتحرك نعرات، لكن عندما تكون هناك مجتمعات، حتى عندما تنساق وراء تيارات شعبوية، كما يحصل وحصل، فإن الضبط الداخلي لا غنى عنه. وتجربة النظامين الصيني والروسي في الأداء والتعبئة جوهرية، بمعنى الحياة الاجتماعية وبمعنى الحياة السياسية.

روسيا، هل تجاوزت انهيار الاتحاد السوفياتي، وباتت قادرة على المواجهة والمنافسة مع الغرب؟

إنهيار الاتحاد السوفياتي مسألة محورية في التاريخ المعاصر. ومذذاك بدا واضحاً عجز المجتمع العلمي السوفياتي ثم الروسي عن التأريخ لمسار السيرورات بطريقة تربط مجموعة كبيرة من العوامل، في بلد لا حياة سياسية فيه، وتقصّي الوقائع وفهمها ممنوعان.

ثمة مسألة جوهرية لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومنظّره ألكسندر بدوغين، وهي أن الشكل الطبيعي للتنظيم السياسي ولتنظيم المجتمعات كدول، هو إمبراطورية، والنظرة إلى الدولة الوطنية بوصفها شيئاً هجيناً أو لاعقلانياً أو تشويشاً على الأنظمة الإمبراطورية. فدوغين، وبوتين معه، ولا أعرف من منهما قبل الآخر، يرفضان أن يريا الوطنيات كمسارات وسيرورات ذاتية ولها منشأ تاريخي وركائز وديناميات، وليست من مخلفات ضعف الإمبراطوريات. ويرفض دوغين وبوتين أن يريا كم رافق الاتحاد السوفياتي وقبله روسيا القيصرية القمع والإكراه واللعب بحدود الدول والمجتمعات وأماكنها. وهذه النظرة الإمبراطورية الروسية هي التي تحكم سياسة الكرملين وعلاقات روسيا بالدول المحيطة وبالعالم أجمع. وفي حين تبدو هذه النظرة سبباً من أسباب الحرب الروسية على أوكرانيا، إلا أن العلاقات الدولية والمجتمع الدولي عاجزان عن لجم أمور من هذا النوع، مثلما عجزا سابقاً عن لجم الغزو الأميركي للعراق.

إنطلاقاً من هذه القراءة للصين وروسيا، ما معنى شعار «التوجه شرقاً» الذي يُطلق في لبنان؟

يعني التغانم والتجاوب مع أعمق اتجاهات الكبح السياسي والاجتماعي والثقافي في مجتمعاتنا. يعني رعب أصحاب هذا الشعار من خسارة الوصاية على الناس وعملها وأفكارها وعلاقاتها. التوجه شرقاً هو نتيجة التجاوب غير المفاجئ والانبهار بالقوة الصينية، وجزئياً بالقوة الروسية. وهو لا يعني الاستفادة من التجارب الأخرى، بقدر القبول بالأمراض التي تنخر تلك التجارب الشرقية، الصينية والروسية. التوجه شرقاً هو إعلان فضيحة التمثّل بالشرق وجعله مثالاً مشروعاً. وللانبهار بالقوة سوابق مخجلة في الأدب والكتابة السياسية، مما يُسمّى دليل السيف. ودليل السيف هو أنه بما أنك منتصر فأنت تملك الحقيقة.

ماذا عن إيران وسياستها ودورها في الإقليم عموماً وفي لبنان خصوصاً؟

أظن أن السياسة الإيرانية والسياسة الحزب الإلهية في لبنان متلازمتان. وليس صحيحاً أن هناك احتلالاً إيرانياً، لسبب أسوأ من الاحتلال. المؤرخون العرب والمسلمون يستخدمون مصطلح الاستدخال. والاستدخال يعني الأخذ من الداخل، مثل نموذج حصان طروادة. وهو أصعب وأسوأ من الاحتلال، لأنه يطلب ما عمل «حزب الله» لأربعين سنة لإنجازه.

هناك مسألة جوهرية اُنجزت، وهي ما فوق حدود الدولة الوطنية وما فوق الحدود الإقليمية، ويرجّح أن يكون الوجه الآسيوي الوسيط (آسيا الوسطى) وجهة إيران. وهذا قائم في سياستها تجاه أذربيجان. وهي مضطرة إليه لأن لديها شطراً آذرياً وآخر أرمنياً ليس بالمعنى السكاني إنّما بالمعنى الجغرافي والممرات الاقتصادية. ومع هذا التوجه، انبنى كيان هجين، جزء منه دولة رأس (إيران)، وجزء منه وكالات أو مباشرة (مثل سوريا) أو مباشرة وأقل شمولاً (مثل العراق أو اليمن)، ولبنان جزء من هذا الكيان الهجين الذي يجمع رأس سلطنة وأجزاء دول وأجزاء مجتمع. وقد أُعلن هذا في خريف 2006 عندما جاء محمود احمدي نجاد واجتمع مع بشار الأسد وحسن نصرالله.

هذا الكيان له قاعدة جوهرية في المشرق، هي المسألة الفلسطينية التي تفترض أو تقتضي أن تبقى الأجزاء المكون منها على هذا الوضع حتى بعد تصور معركة فاصلة أظن أنها لن تأتي. أستبعد أن يضرب الأميركيون والإسرائيليون جهاز الصناعة النووية الإيرانية، وأستبعد حل المسألة الفلسطينية. هذا الكيان منسوج ومركب في هذين الوجهين. وفيما يجب أن يبقى السيف يهدد بهجوم عسكري ضخم على الصناعة النووية الإيرانية، يجب أن يُمنع إذا أمكن مشروع سلم إسرائيلي - عربي، وبشكل خاص فلسطيني - إسرائيلي. وبين هذا وذاك، هناك دولة «حزب الله» التي تغدو أكثر فأكثر مجتمع «حزب الله». وفي الأثناء، يتمدد الشلل اللبناني ليغدو الكيان السياسي كيانات جماعية اجتماعية. وبالتالي، يصبح المجتمع من دون رأس ومن دون إطار وأجهزة جامعة.

يدور في إيران اليوم نقاش في شأن «أفول أميركا»، هذا جيّد! لكن المطلوب من أصحاب هذا القول أن يعلنوا موعد ذلك: السنة المقبلة أو بعد 30 سنة؟ وماذا لو لم يحصل ذلك، ماذا نفعل؟ ومع انتظار أفول أميركا، هناك انتظار انهيار بيت العنكبوت (إسرائيل). هكذا، صرنا أمام انتظارين. وفيما يطرح كثيرون، في ظل هذه الطريقة من حساب الزمن، أسئلة من نوع ماذا سيحصل بأسعار القطع في سوق العملات وأين سيصبح الريال والتومان والدولار، يأتي واضحاً جواب «حزب الله» ذي المرجع الخميني: السياسة شأن إلهي! وفي هذه الحال، الحياة العضوية للبشر، كأن يجوعوا أو يمرضوا، أمور ليست مهمّة. الناس تنتظر مجيء صاحب الزمان، كما في كل الخلاصيات.

وذلك ليس بالضرورة استنساخاً عن الصين حيث التقديس العلماني للسلطة أو عن روسيا التي كانت مثل الصين إنما عادت مع بوتين أرثوذكسية. فالفهم الخميني والحزب الإلهي للسلطة لا يقيم وزناً للناس. ثمة أمر نستهونه، وهو قاسٍ وفظيع، هو التبذير الهائل بالبشر وأعمالهم وأفكارهم ومشاعرهم.





كيف تضع ما يُسمّى «الشيعية السياسية» في السياق اللبناني؟

إستعملت في البداية «العروبة السياسية» رداً أو في مواجهة المارونية السياسية التي لم تكن في رأيي مارونية سياسية بقدر ما هي مارونية اجتماعية. الشيعية السياسية تعني أن ثمة بناءً فوقياً سياسياً لا قاعدة اجتماعية له. ما فعله «حزب الله» بشكل ضخم هو بناء فوقي من دون أي تكتيل على محاور مصلحية أو ثقافية، ومن دون لملمة أو بناء من تحت يتوّجه توحيد سياسي للجماعات الشيعية. ووضع «حزب الله» مباشرة في قلب هذا البناء الفوقي المسألة الفلسطينية - الإسرائيلية، وبنى جيشاً حول هذه المسألة التي لا صلة لها تقريباً بحياة الناس، إنما هي هاجس سوري وذريعة إيرانية. فبينما القيادة السورية بحاجة إليها لأسباب داخلية منها أن الأقلية المسيطرة على الدولة تفتقد إلى تبريرها في السلطة إذا ما تخلّت عن استرجاع الجولان المحتل، تريد القيادة الإيرانية هذه المسألة لانتزاعها من العرب ولاستعمالها وسيلة للتوسع.

بهذا المعنى، الشيعية السياسية إنجاز فظيع: مقابل هذا البناء الفوقي والمسألة تعزل الجماعة الطائفية الأوسع والتي كان يمكن أن تكون الأغنى مادياً وثقافيا وتجربة وعلاقات، بمسار محدّد.

ألا تنتمي هذه «الشيعية السياسية» إلى البطن الطائفي اللبناني؟

أكيد. صدرت عن البنية الطائفية العامة. طائفة تأخرت مساواتها على الصعيد التنظيمي والمؤسسي (المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى) ومفتتة بين جناح بقاعي - هرملي يتآكل مع الهجرة إلى المدن وتفكك العشائر، وجناح جنوبي يضعف من وقت طويل. وفيما كان كامل الأسعد، وريث العائلة الحاكمة منذ 450 سنة، يتزعم الطائفة، وصل وضعها الاجتماعي إلى غلبة العامة. وكانت حركة موسى الصدر لردم التفاوت بين الاجتماع والتمثيل السياسي. وكان ذلك بقيادة دينية لأن مشروعية القيادة السياسية تضاءلت. جاء شخص من نسل الحسين جمع البقاع والجنوب، وأزاح القيادة السياسية، وتحالف مع الضعفاء وبنى الطائفة من الداخل ومن تحت، على عكس كمال جنبلاط، مثلاً، الذي وحّد الطائفة من فوق لكونه الزعيم العائلي السياسي.

ما هي التغيّرات التي شهدتها الطائفية؟

تغيّرت كثيراً وبشكل جوهري. بصيغتها الانتدابية المارونية، المسيحية عموماً، كان لها طابع دفاعي، محافظ، حماية الطاقم، حماية الأفراد والجماعة، أكثر من حماية مكانتها وهويتها ولبنانها الذي لم تنجح في أن تشاركه مع الآخرين، لأنها بقيت تدافع عمّا يبدو امتيازات، في الوقت الذي هو أكثر بكثير حماية أراض. والدليل على هذا، أنه في صميم هذا النظام، وبعدما ضعف، تمكّنت طائفة أخرى من أن تتماسك وتبني مصالحها وتتعلم وتثرى.

كأن في الأمر تحوّلاً من الدفاع إلى الهجوم؟

حرفياً. الدولة اللبنانية كانت قبل الحرب بطاقم ماروني مع جزء سني مناسب وجزء شيعي متخلف عن المطابقة الاجتماعية - السياسية التي بدأت مع المسيحيين، واستمرّت جزئياً مع السنة، وكان الشيعة آخر من التحق فيها، على الرغم من أن التفاوت بينهم وبين الآخرين كان الأعمق.

في السابق، سمح طابع السلطة المارونية، إضطراراً وليس تخطيطاً، للطوائف الأخرى بهوامش واسعة في أمور مثل التعليم والسكن والانتقال والإقامة وتشكيل أحزاب وصحافة. والآن، ثمة نزعة لم تغدُ عملية بشكل كامل عند الشيعة في أن يكونوا مثل العلويين في سوريا، وهم في موقع أقوى سكانياً واقتصادياً في لبنان، للسطو على السلطة ومركزتها من دون الأخذ بالاعتبار الاختلافات الاجتماعية الكبيرة، التي تأخذها الكونفوشيوسية بالاعتبار. ولعل دور «حزب الله» في قمع «17 تشرين» (2019) من الدلالات على هذه الوجهة. وكذلك دور «الحشد الشعبي» في العراق في قمع «حراك تشرين». ويشبه ذلك وضع الحوثيين في اليمن. فالاختلافات الطائفية والقومية، في السلطنة الإيرانية، التي لبنان جزء منها، يجب ألا تقف في وجه عملية التوحيد المركزية.

كيف ترى الدعوة إلى الفيدرالية؟

الفكرة قديمة. مكسيم رودنسون عندما جاء إلى لبنان في 1945 و1946، لاحظ أن المجلس النيابي مجلس فيدرالي. وهذا صحيح بمعنى ما. التركيب السابق كان يحظى بقبول وموافقة مع اعتراضات على الحصص، وقد لحظت ذلك المادة 95 من الدستور، فاعتبرت أن المحافظة على حقوق الطوائف في مناصب الدولة مرحلة انتقالية. ويقول الفرنسي بيار روندو، في كتابه «الطوائف في الدولة اللبنانية»، إن الغرض من النظام الانتخابي الذي يجمع طوائف عدة هو أن يحرص المرشحون على توفير قاعدة متنوعة، وأن تكون خطاباتهم وسطية ومشتركة وجامعة. المشكلة أنه بعد عدد من الوقائع والحوادث التي بدأت من 1952 انعكست الآية، وصار مَن يريد الحصول على أصوات جماعته وطائفته يجب أن يكون أكثر تشدداً. ما حوّل المعارك الانتخابية معارك كسر عظم.

لبنان «كمشة». وفي رأيي هذه ليست ملاحظة عابرة. الفيدرالية تُفهم في أماكن مثل سوريا أو العراق، ليس بالتركيب الاجتماعي والقومي والمناطقي - الجغرافي فحسب، إنما بالعامِلَين الماديين، السكان والمساحة، أيضاً. ولبنان صغير المساحة وفيه تداخل سكاني. لذا، أعتقد أن في الفيدرالية مخالفة عميقة للتاريخ الماروني. العمود الفقري للجغرافيا اللبنانية هو انتشار الموارنة من الشمال إلى الجنوب. أعتقد أن في الدعوة إلى الفيدرالية شيء من رد الفعل على تبدلات الواقع السياسي والاجتماعي وتقدم ما أسميته في البداية «العروبة السياسية» وصار لاحقاً «الشيعية السياسية» وتراجع «المارونية السياسية - الاجتماعية»، إضافة إلى الوضع الأمني الذي يشعر كثيرون من المسيحيين أنه مستباح من فئة مسلحة.

مفارقات «17 تشرين»

لا يُخفي وضاح شرارة أنه كان وما زال في تنازع إزاء انتفاضة 17 تشرين الأول 2019. ويروي أنه انضم مرّتين إلى المتظاهرين، وحضر اجتماعات عامة وحكى مع عدد من الناس. ولهذا، لا يعد نفسه مشاركاً.

ويقول: «كان عندي تحفظ أساسي على مسألة الخطاب، تتعلق بتاريخ لبنان المعاصر، على الأقل منذ الحرب التي يعتقد البعض أنها اندلعت في 1975 وانتهت في 1990 لكنّها حقيقة بدأت في 1962 ولم تنتهِ بل أخذت مسالك أخرى. والتحفّظ هو غياب أي إشارة إلى مصدر الوضع الحالي وأسبابه في أقوال المنتفضين والمتحدّثين على الشاشات المفتوحة. فهم يتكلّمون كأن ما يحصل هو البداية ولا جذور له. وفي ظل التنوّع القائم، في المطالب والمصالح والخطابات، في 17 تشرين، لا تُطرح مسألة تنسيق ومناقشة. روعني ذلك، وشغلني كيف أن الناس، وهم آتون من مكان وزمان، من دون رابط بالبلد، وكيف أن هذا النسيج المتنوّع المتنافر لا يسأل ماذا يفعل هؤلاء معاً».

إضافة إلى هذه «القطيعة مع لبنان سواء أكان اليساري أو اليميني»، استوقفت وتستوقف شرارة «مفارقات أليمة»، منها «مشاركة بعض من قامت حياتهم الثقافية على الذاكرة، لكن من دون أن يكون لذلك أثر وحضور». ومنها أيضاً «نشأة تكتّلات هي محض محاكاة لتشكيلات برزت في انتفاضة السودان على سبيل المثال، لكن في الوقت نفسه لا إشارة إلى ذلك ولا إلى أي صلة مع ما يجري في السودان أو الجزائر أو العراق. كأنّهم لم ينتبهوا إلى ذلك». من هنا، يرى شرارة أن هذه «القطيعة مع التاريخ والخارج مثيرة للتساؤل» وهي بمثابة «ثغرة في الثقافة والأداء والخطاب السياسيين».

MISS 3