مجيد مطر

ما بعد التسوية... التعطيل!

25 آذار 2023

02 : 00

لأسبابٍ معروفةٍ، كانت جميع الاستحقاقات الدستورية زمن الوصاية السورية، تتم في مواعيدها، بسلاسةٍ وانسيابية، بدءاً بالانتخابات البلدية والنقابية، وصولاً إلى الانتخابات النيابية والرئاسية، حيث ما كان لأحدٍ أن تكون له الخيرة من أمره، ذلك لمجرد الإيحاء من قبل السوريين إلى مآل الأمور، حتى لا يتبقى أمام النواب سوى انجاز الاستحقاق ضمن المهل الدستورية تحت طائلة خسارة الموقع والامتياز.

فبعد يومين على استشهاد الرئيس رينيه معوض، تمّ سريعاً انتخاب الرئيس الياس الهرواي، وكذلك تمّ التمديد له وبرفع الأيدي، الأمر نفسه حصل مع الرئيس اميل لحود انتخاباً وتمديداً.

يُلاحظ أنّ الانتظام الذي كان سائداً في تلك الفترة، انقلب بعد خروج النظام السوري من لبنان إلى هشاشةٍ دستورية، التعطيل فيها المبدأ واحترام المهل هو الاستثناء، والأمثلة كثيرة على ذلك، مع أنّ الدستور الذي كان يحكم تلك الاستحقاقات هو نفسه لم يتغيّر ولم يتعدل.

الإشارة إلى هذه الحقائق، لا تتضمن مديحاً لزمن الوصاية قطعاً، فكلتا الحالتين، فيهما مثلبة لا منقبة، أي التسهيل هناك والتعطيل هنا، ينمّان عن عجزٍ سياسي، ونقصٍ في الإرادة الحرة، المعبّرة حصراً عن المصلحة الوطنية.

أمام هذا الواقع أصبحت جميع الحلول تدور حول الدخول في التسويات بين مختلف الأطراف على حساب الدولة والشعب، وهي حلول لفظية ووهمية، تجلب الاستقرار الموقت، بحيث تؤجل الاصطدام ولا تلغيه.

صحيح أنّ التسوية لها فضيلة أساسية، وهي إبعاد شبح العنف واللجوء إلى الوسائل غير السياسية لايجاد الحلول، بيد أنّها في لبنان، قد فقدت صدقيتها وجاذبيتها، كون أطرافها ليسوا دائماً على درجة واحدة من القوة، وغالباً ما تكون نتائجها معبّرة عن تفوّق طرفٍ على حساب طرفٍ آخر، خصوصاً وأنّ سلوك البعض يختلف حيال احترام الاستحقاقات وإلزامات القانون.

بشكل عقلاني لا يمكن رفض منطق التسويات أو أسلوب تدوير الزوايا، فهنا تكمن السياسة بمعناها السياسي، أي إيجاد الحلول الموضوعية التي غالباً ما تكون لصالح الخير العام أو المصلحة المشتركة، وليست عنواناً أو ذريعة سلمية لفرض الهيمنة والغلبة.

لا شك أنّ ثقافة التسويات حاضرة في تاريخ البشرية، ومثال ذلك ما توصل إليه الأوروبيون في مؤتمر «ويستفاليا» بعد حروب مذهبية استمرت طيلة 30 عاماً، فقد كان هذا المؤتمر بمثابة تسوية تاريخية أخرجت القارة الأوروبية من اللجوء إلى الحرب كوسيلة لقهر الآخر، إلى منطق السلم واحترام السيادة، فتعزز مسار الديمقراطية وساد منطق القانون، وانتظمت الحال.

وبعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري دخل لبنان في متاهة التسويات المعلّبة، وأصبح تطبيق الدستور بحاجةٍ لحوار مشروط ومفتعل، الغاية منه التمهيد لتكريس هيمنة الخارج على الداخل أو تقوية موقعه التفاوضي من دون الاكثراث للدولة ومصالحها وعلاقاتها الدولية. فمُدِدَ لمجلس النواب على نحوٍ مخالفٍ للدستور ومتجاوزٍ لإرادة الناخبين، وتمّ تعطيل الاستحقاق الرئاسي طيلة سنتين لفرض شخص بعينه، فكانت كلُّ تسويةٍ تأتي بحلول آنية لا تلبث أن تتعطل لندخل في استعصاءٍ غير مبرر، يستدعي بدوره الدعوة لحوار ما، أو للدخول في تسوية أخرى، وهكذا دواليك.

وعليه ظلّت الأزمات تحدث بطريقة دورية، فمن أزمة إلى تسوية، ومن تسوية إلى أزمة من دون أن نعرف وجهة استقرارها، بحيث انقلب منطق التسويات نفسه إلى مشكلة سياسية بدلاً من أن يكون هو الحل.

وهذا ما يكشف أنّ لا اجماع بين اللبنانيين حول مفهوم السيادة ولا مبدأ الحياد، ولا احترام قرارات الشرعية الدولية، ولا ترسيم الحدود، ولا حدود الصلاحيات بين مختلف الرئاسات ولا حول اتفاق الطائف نفسه، ولا حول السلاح أو الاستراتيجية الدفاعية ولا قضية التدويل ولا التعريب...

على العموم ليس أسهل من الحديث عن التسويات، أو الدعوة إليها، إنما في واقع الأمر التسوية المطلوب الدخول فيها، دائماً يكون المقصود منها فرض أمرٍ واقع سياسي، يتجنب الدخول في العناوين الخلافية الجدية بين اللبنانيين، وهذه الاختلافات ليست من قبيل الفوارق السياسية البسيطة، والتعاطي معها يجب أن يكون انطلاقاً من الدستور والنظام.

هذا السلوك السياسي الرصين كفيل أن يكون مولداً لحلول مرضية، ومشجعاً للدخول في التسويات السياسية بأولوية احترام الدولة والاعلاء من شأنها. ماذا وإلا سنظل في الدّوامة السياسية نفسها: ما بعد التسوية التعطيل مجدداً...


MISS 3