تقاسُم العالم مع قوى عظمى جديدة...

14 : 20

غداة الحرب الباردة، اعتبر صانعو السياسة الأميركية أحد أبرز المفاهيم الجيوسياسية بالياً. فوصفت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس عالماً جديداً "حيث لا تتحدد القوة العظمى بنطاقات النفوذ... ولا بقدرة الأقوياء على فرض إرادتهم على الضعفاء". ثم أعلنت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون أن "الولايات المتحدة لا تعترف بنطاقات النفوذ"، واعتبر وزير الخارجية جون كيري أن "حقبة عقيدة مونرو تلاشت"، فانتهى بذلك قرنان من المطالبة الأميركية بنطاق نفوذها الخاص في النصف الغربي من الكرة الأرضية.

كانت تلك المواقف محقة في مسألة واحدة: لقد تغيّر جانب من الوضع الجيوسياسي حتماً. لكنها أخطأت في تحديد حقيقة ذلك التغير. لم يعد صانعو السياسة الأميركيون يعترفون بنطاقات النفوذ، أي قدرة مختلف القوى على المطالبة بنظام رادع من دول أخرى في مناطقها الخاصة أو بفرض سيطرة طاغية هناك. لم يصبح هذا المفهوم بالياً كما قيل، بل إن العالم أجمع أصبح ضمن النطاق الأميركي. لقد مهدت نطاقات النفوذ المتعددة لنشوء نطاق نفوذ واحد. تابع الأقوياء فرض إرادتهم على الضعفاء، وأُجبِرت بقية بلدان العالم على الالتزام بالقواعد الأميركية كي لا تضطر لدفع ثمن باهظ، بدءاً من العقوبات الثقيلة وصولاً إلى تغيير الأنظمة مباشرةً. هكذا انهارت نطاقات النفوذ كي تقتصر على نطاق واحد نتيجة الهيمنة الأميركية الفائقة.

لكن بدأت تلك الهيمنة تتلاشى اليوم، فأدركت واشنطن أن الوضع القائم هو عبارة عن "حقبة جديدة من المنافسة بين القوى العظمى"، إذ تستعمل الصين وروسيا نفوذهما بشكلٍ متزايد لفرض مصالحهما وقيمهما التي تتعارض عموماً مع الأهداف الأميركية. لكن لا يزال صانعو السياسة والمحللون الأميركيون يجدون صعوبة في فهم معنى هذه الحقبة الجديدة بالنسبة إلى الدور الأميركي في العالم. في المرحلة المقبلة، لن يصبح هذا الدور مختلفاً فحسب، بل إنه سيتراجع أيضاً. قد يتابع القادة الإعلان عن طموحات كبرى، لكنّ انحسار الوسائل المتاحة يعني انحسار النتائج المحققة.

لقد انتهى زمن العالم أحادي القطب وانهارت معه الفكرة الوهمية القائلة إن البلدان الأخرى ستجد مكانتها بكل بساطة في نظام دولي تقوده الولايات المتحدة. على واشنطن إذاً أن تتقبل تعدد نطاقات النفوذ في العالم اليوم وتقتنع بأنها لا تندرج كلها في النطاقات الأميركية.

بالنسبة إلى المصالح والقيم الأميركية، لن تكون عواقب توسع نفوذ الصين وروسيا نسبةً إلى النفوذ الأميركي إيجابية. تستطيع الصين وروسيا، بصفتهما جزءاً من القوى العظمى، أن تستعملا قوتيهما لقمع حرية المحتجين في هونغ كونغ أو منع انتساب أوكرانيا إلى حلف الناتو. كذلك، قد يصبح بحر الصين الجنوبي أقرب إلى الكاريبي منه إلى البحر المتوسط، وستضطر أوكرانيا لتقبّل خسارتها لشبه جزيرة القرم فيما يزداد خوف الدول المجاورة لروسيا من الكرملين.لاتخاذ خطوات صائبة، يجب أن تُركّز واشنطن في المقام الأول على تحالفاتها وشراكاتها. إذا كانت الصين ستتحول في مطلق الأحوال إلى "أكبر لاعبة في تاريخ العالم"، كما ادعى زعيم سنغافورة القديم لي كوان يو يوماً، يتعين على الولايات المتحدة أن تسعى إلى جمع القوى المتحالفة لتشكيل اتحاد متماسك تضطر الصين للتأقلم معه.

ينطبق المبدأ نفسه على المجال العسكري، لكنه يبقى أكثر تعقيداً. ستحتاج واشنطن إلى الشركاء، شرط أن يوفروا موارد إضافية بدل أن يطرحوا المخاطر. لكن للأسف، يقلّ حلفاء الولايات المتحدة الذين يتماشون مع هذا المعيار اليوم. يجب أن يخضع نظام التحالفات الأميركية لتحليل موضوعي، ما يعني ضرورة تقييم جميع الحلفاء والشركاء راهناً، بدءاً من باكستان والفيليبين وتايلند، وصولاً إلى لاتفيا والمملكة العربية السعودية وتركيا، بحسب الجهود التي تبذلها هذه البلدان لتحسين الأمن الأميركي وحجم المخاطر والتكاليف التي تطرحها. لا تدوم أي تحالفات إلى الأبد. حين تغيرت الظروف تاريخياً، وتحديداً عندما اختفى عدو محوري أو تبدّل ميزان القوى بطريقة جذرية، تغيرت أيضاً العلاقات الأخرى بين مختلف الدول.

لفهم المخاطر المرتبطة بالإرث الذي تخلّفه التحالفات الأميركية الراهنة، لنفكر بسيناريوين يقلقان مخططي الدفاع الأميركيين اليوم. إذا قررت تايوان، أمام حملات القمع الصينية للاحتجاجات في هونغ كونغ، أن تتخذ خطوة جذرية لنيل استقلالها وردّت الصين على تحركها هذا بعنف، هل ستخوض الولايات المتحدة الحرب مع الصين حفاظاً على مكانة تايوان؟ وهل يُفترض أن تخوض حرباً مماثلة؟ على الجبهة الأوروبية، إذا عمدت حكومة لاتفيا إلى قمع الروس الإثنيين رداً على انتفاضة هؤلاء الروس في أحواض بناء السفن في "ريغا" ودفعت روسيا إلى ضم مساحة من لاتفيا (نسخة مستحدثة من أحداث شبه جزيرة القرم)، فهل سيطلق الناتو رداً عسكرياً فورياً، بما يتماشى مع الضمانات التي تذكرها المادة الخامسة من ميثاقه؟ وهل يُفترض أن يفعل ذلك أصلاً؟ إذا لم يكن الجواب على هذه الأسئلة إيجابياً (وهو ليس كذلك)، يحين الوقت إذاً لابتكار نسخة مبنية على التحالفات من اختبارات إجهاد البنوك التي استُعملت بعد الأزمة المالية في العام 2008.

تزداد أهمية هذه المقاربة اليوم نظراً إلى وقائع الأسلحة النووية في هذا العالم الجديد. تملك الصين وروسيا إمكانات نووية مضادة، أي القدرة على مقاومة هجوم نووي أولي وشن ضربة انتقامية قادرة على تدمير الولايات المتحدة. أمام هذا الوضع، لن تكون الحرب النووية خياراً عملياً، وحتى الحرب التقليدية المُعرّضة لاتخاذ منحىً نووياً قد تسبب كارثة حقيقية. لذا لا بد من التعامل مع المنافسة القائمة عبر مقاربة مبنية على الحذر وضبط النفس والحسابات الدقيقة في أخذ المجازفات. بالنسبة إلى بلدٍ يحمل سجلاً طويلاً من التداخلات مع دولٍ تظن أن واشنطن تعطيها هامشاً واسعاً من حرية التصرف، يطرح هذا الوضع مشكلة كبرى. ثمة خط رفيع بين طمأنة الدول الحليفة وزيادة جرأة قادتها ودفعهم إلى التصرف بتهور.إذا تغيّر ميزان القوة العسكرية في أي حرب تقليدية على تايوان أو دول البلطيق بطريقة جذرية وبات يميل لمصلحة الصين وروسيا، لا يمكن الحفاظ على الالتزامات الأميركية الراهنة. تعكس الفجوة القائمة بين تلك الالتزامات والقدرات العسكرية الأميركية الفعلية حالة كلاسيكية من المبالغة في تقدير الإمكانات الذاتية. على مستوى نظام التحالفات الراهن والعلاقات الأميركية مع كل واحد من خمسين حليفاً وشريكاً، يجب أن يرتكز التقييم الموضوعي على تحليل الأدلة. لكن ستضطر الولايات المتحدة على الأرجح للتخلي عن عدد من حلفائها مقابل مضاعفة شراكاتها مع جهات أخرى تملك موارد مهمة للأمن الأميركي وتعتبر الموارد الأميركية مهمة لها بالقدر نفسه، حتى أنها قد تعدّل شروط كل التزام لجعل الواجبات والضوابط بمستوى التطمينات والضمانات.

ستؤدي هذه العملية أيضاً إلى تعزيز مصداقية الالتزامات التي تختار الولايات المتحدة تجديدها. يزعم المحاربون القدامى في الحرب الباردة أن الناتو هو أعظم تحالف في تاريخ العالم، وهم محقون، لكن لا يبدو ترامب، ولا أوباما قبله، مقتنعَين بهذه الفكرة. حتى أن قادة الجيش الأميركي شككوا بأن يسمح مجلس شمال الأطلسي بإطلاق رد عسكري على قرار روسيا بضم شبه جزيرة القرم، أو بقدرة الحكومة الأميركية على اتخاذ قرار حول طريقة الرد قبل انتهاء ذلك الحدث. من خلال إعادة النظر بالالتزامات الأميركية مع حلفائها، سيتحسن الأمن الأميركي وتزداد قوة تلك الاتفاقيات نفسها.في النهاية، تبقى الاستراتيجية أهم تدبير هادف لإيجاد الوسائل وتحقيق الغايات. قد تخسر الاستراتيجية لأسباب عدة، أبرزها عدم التطابق (أي حين تكون الوسائل التي يستطيع الطرف المعني تنظيمها والحفاظ عليها غير كافية لتحقيق الغايات المعلنة) وغياب الرؤية (أي حين ينبهر الطرف المعني بهدف مثالي لكن غير قابل للتنفيذ). تقدم الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة خلال القرن الواحد والعشرين في الشرق الأوسط أمثلة حية على هاتين المشكلتَين معاً.

في المرحلة المقبلة، يتعين على صانعي السياسة الأميركيين أن يتخلوا عن الطموحات غير القابلة للتحقيق بشأن العالم الذي كانوا يحلمون به ويتقبلوا أن تبقى نطاقات النفوذ جزءاً محورياً من الوضع الجيوسياسي. لا شك في أن هذا القبول سيكون مساراً طويلاً ومربكاً ومؤلماً، لكنه قد يترافق في الوقت نفسه مع موجة من الابتكار الاستراتيجي. إنها فرصة مؤاتية لإعادة النظر بمفاهيم الأمن القومي الأميركي.ترسخت الفكرة الأساسية التي يحملها معظم صانعي السياسة الخارجية اليوم عن الدور الأميركي في العالم خلال ربع القرن الذي تلا انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة. ذلك العالم لم يعد موجوداً اليوم. تبدو العواقب وخيمة بقدر تلك التي واجهها الأميركيون في أواخر الأربعينات. لذا من المفيد أن نتذكر المدة التي احتاج إليها الأفراد الذين يُعتبرون اليوم "حكماء" لفهم طبيعة العالم الذي يواجهونه. مرّت حوالى خمس سنوات بين "التلغرام الطويل" (تحذير أولي من المنافسة في الحرب الباردة) والوثيقة السياسية الصادرة عن مجلس الأمن القومي (NSC-68)، حيث طُرِحت أخيراً استراتيجية شاملة للتعامل مع الوضع القائم. لذا يُفترض ألا يقلق أحد من الارتباك السائد في أوساط السياسة الخارجية الأميركية اليوم. إذا احتاج كبار الخبراء الاستراتيجيين خلال الحرب الباردة إلى خمس سنوات تقريباً لوضع مقاربة أساسية، سيكون توقع أداء أفضل من هذا الجيل موقفاً يتجاوز حدود الغطرسة!


MISS 3