أحمد الأيوبي

"المقاصد الإسلامية" في مواجهة دار الفتوى: تحوّل تاريخي يطال الهوية والمستقبل

3 نيسان 2023

02 : 00

من المدارس التي تمّ تغيير اسمها

لم يكن تأسيس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية عام 1878م مجرّد إعلان عن تشكيل هيئة تقليدية تُعنى بأعمال التكافل الاجتماعي، بل كان استجابة لأوضاع تشابه بشكل نموذجي أحوال لبنان بطوائفه وبأحوال أهل السنة فيه، عندما عانوا من انهيار اجتماعي واقتصادي في ظل انهماك الدولة العثمانية في حربها مع روسيا، فكانت قراراً بالنهوض التربوي والاجتماعي للحفاظ على الهوية والتوازنات في الكيان اللبناني بعدما سبقت الطوائف الأخرى المسلمين في اليقظة العلمية والاقتصادية، من دون أن يحمل نشوء المقاصد أيّ شكل من أشكال الاصطفاف الطائفيّ بل إنّها عملت كمؤسسة وطنية تنشط في المساحة الإسلامية.



نشأت المقاصد إذاً إسلامية - وطنية وطوّرت التعليم لدى المسلمين من الكُتّاب والتعليم الديني الصرف إلى النموذج التربوي المؤسساتي الذي أتاح للطلاب عبور المرحلة الابتدائية نحو التعليم العالي الذي كان محصوراً في اسطنبول، وبقيت تحمل هويتها ذاتها مع دخول الاستعمار الفرنسي إلى لبنان ثم نيله الاستقلال وتحوّل المقاصد إلى محضن لإنتاج القيادات الاجتماعية والسياسية من آل قباني والصلح وسلام... مستمِدّة قوّتها الدافعة من مبادئها وإنجازاتها التي امتدت مدارس ومؤسسات صحية وإنسانية على مساحة الوطن. تأثّرت المقاصد بالتحوّلات والأزمات وعانت اختناقات لأسباب موضوعية داخلية وأخرى خارجية، لكن لم يعتبر أحد أنّ الخروج من المأزق يكمن في كسر الهوية والانقلاب على التراث المقاصدي العريق وتحويل هذا الصرح إلى مؤسّسة تجارية ترمي تاريخها وتغامِر بخسارة الماضي والحاضر والمستقبل، وهذا ما يعتبر أغلب أهل بيروت أنّ الرئيس الحالي لمجلس أمناء المقاصد الدكتور فيصل سنّو يقوم به منذ انتخابه في 20 أيار 2018 ثمّ التجديد له في 27 آذار 2022 مع مجلس أمناء جديد بالتزكية، وهم: غالب الداعوق، فيصل سنو، مي نعماني مخزومي، محمد السماك، منى بوارشي، بسام برغوت، رلى عجوز، فادي ميرزا، غالب محمصاني، أحمـد منيمنة، أديب بساتنة، عماد عيتاني، ميسم النويري، أنس المغربل، ديانا طبارة، فادي درويش، دالية سلام، ناصر وتار، محمد الزاملي، جمال بكداش، نبيل حداد، عبد السميع الشريف، كمال حلبي.


المآخذ المتراكمة على سنّو

ــ تغيير شعار المقاصد وإسقاط الرمزية الإسلامية للشعار.

ــ إستهداف الهوية الإسلامية للجمعية من خلال إجراءات فوضوية طالت كلية الدراسات الإسلامية عبر مناقلات إدارية صعّبت على طلابها المتابعة فيها، وشملت إقفال مبنى الكلّية في المصيطبة عام 2018، ونقل الإدارة إلى كلّية البنات في الباشورة، بذريعة ترميم المبنى في المصيطبة، ثمّ نقل الإدارة أواخر صيف 2020 إلى معهد عبد الهادي دبس للإعداد المهني والتقني، بحجّة ترميم كلّية البنات، مع أنّها تتضمّن إدارات أخرى للمقاصد، والآن، تستعدّ كليّة الدراسات الإسلامية للانتقال النهائي إلى معهد التمريض.

ــ إسقاط اسم السيّدة عائشة عن المدرسة التي حملت اسمها في منطقة الحرج.

ــ إسقاط اسم السيّدة خديجة عن المدرسة التي حملت اسمها في منطقة عائشة بكّار.

ــ إلغاء عطلة يوم الجمعة واعتماد السبت عطلة أسبوعية. وتبرير ذلك بالسماح للطلاب بأداء صلاة الجمعة فيما إدارة المقاصد استحدثت نوادي للنشاطات اللامنهجية كالموسيقى والرسم والرقص في وقت الصلاة.

ــ وضع اليد على مداخيل المساجد التابعة للمقاصد في بيروت، وهي مداخيل يقدّمها المصلّون المتبرّعون لتلك المساجد.

ــ وضع اليد على التبرّعات التي قُدّمت لتوسعة مسجد سليم سلام، وإلغاء المشروع بذريعة أنّ للمقاصد أولويّات أخرى، فالجمعية لا تريد توسعة المسجد، مع أنّ التبرّعات مشروطة بالتوسعة لا غيرها.

ضرب العلاقة بين المقاصد والسفارة السعودية

كما تسبّب سنّو في الإساءة للعلاقة التاريخية بين جمعية المقاصد وسفارة المملكة العربية السعودية التي قدّمت الدعم للجمعية بأوجه مختلفة وقوبلت بسوء استغلال واضح من سنّو لهذه المساعدات وكادت الأمور أن تصل إلى رفع الدعاوى بسبب عدم الالتزام بالمواصفات في تنفيذ الدعم لمستشفى المقاصد، وانتهت الأزمة بحصر الدعم السعودي بالجانب الإغاثي الغذائي عن طريق مركز الملك سلمان بن عبد العزيز وخسرت المقاصد إمكانية تطوير المستشفى والقطاع الصحي فيها.

حقيقة تسديد ديون المقاصد

يوضح متابعون للملف أنّ سنّو يعتبر إنقاذ جمعية المقاصد الإسلامية من ديونها من أهمّ إنجازاته محمِّلاً الرئيس تمام سلام بصفته الرئيس الأسبق للجمعية المسؤولية عنها. والواقع أنّ هذا الإنجاز جاء من دون منّة من أحد، وحقيقة الأمر أنّ سيدة فاضلة من أهالي بيروت هي زوجة رجل الخير (ع.ط) أوصت قبل وفاتها بالتبرع من مالها بما يسدّ جميع ديون الجمعية البالغة خمسين مليون دولار لدى المصارف، فقام سنّو بتسديد الديون على سعر تصريف 1500 ليرة لبنانية للدولار، وبهذا يتضح أنّ مكانة المقاصد في ضمير أهل بيروت كانت العامل الحاسم في تسديد الديون وليس أيّ عامل آخر.

فيصل سنّو والأزمة مع دار الفتوى

لم تكن أوساط دار الفتوى مرتاحة للمنحى الذي اتخذه سنّو في إدارة المقاصد، لكنّها لم تدخل على خطّ السجال تجنّباً لتصعيد الموقف، خاصة أنّ رؤساء المقاصد يُنتخبون بحضور مفتي الجمهورية، لكنّ تصعيد سنّو للمواجهة في الآونة الأخيرة مع إصراره على المضيّ في مشروع التعاون مع البعثة العلمانية الفرنسية وتغليب الجانب التجاري على حساب هوية المقاصد وهو ما يحصل في شطب أسماء الصحابة وأمهات المؤمنين عن تسميات المدارس، وارتفاع أصوات الاعتراض في المجتمع البيروتي كلها عوامل دفعت بأمين الفتوى الشيخ أمين الكردي إلى التدخل المباشر عندما تأكّد بالوثائق الصادرة عن وزارة التربية والتعليم العالي أنّ سنّو قام بإزالة اسم السيدة خديجة عن مدرسة المقاصد في عائشة بكار، وهذا ما أدّى إلى توجّه الشيخ الكردي للدعوة إلى «مقاطعة أي نشاط يقوم به هذا الرجل أو من يناصره لأنه لا يجوز شرعاً، كما أنه لا يجوز التبرع للمقاصد»، منبّهاً إلى «أننا لا نعلم ما هو مخفي من اتفاقيات مع المؤسسات الخارجية» مؤكداً أنّ «المقاصد ترتبط بديننا ووجودنا كمسلمين». بعد إعلان أمين الفتوى الشيخ الكردي المواجهة مع سنّو إرتفعت الدعوات إلى مقاطعة إفطار المقاصد السنوي الذي دعا إليه، بل وصلت الاعتراضات إلى ضرورة استقالته مع مجلس الأمناء الذي يوافق توجهاته واضعاً الجمعية في مواجهة دار الفتوى لأوّل مرّة في تاريخها، وفي مواجهة المجتمع البيروتي والسنّي بحيث باتت إدارتها معزولة بشكل خطِر.

ترفض مصادر في دار الفتوى اعتبار ما يجري معركة إصلاح واعتدال يخوضها سنّو فالمقاصد بهويتها الإسلامية التاريخية تتموضع في قلب الوسطية وفي عمق السلوك الوطني وهي في هذا المجال مدرسة تُحتذى وأنّ المطلوب هو إصلاح إداريّ يأخذ بعين الاعتبار عوامل الضعف وعناصر القوة ويطرح الحلول بناء على الشفافية واعتماد الطرق العلمية في مقاربة الأزمات.

بعد نجاح دعوات المقاطعة لإفطار سنّو وامتناع الأخير عن نشر مضمون خطابه فيه، كان لافتاً عدم تدخّل أيّ مرجعية بيروتية لتغطيته أو الدفاع عنه، حتى الرئيس تمام سلام الذي يُعتبر المعني الأقرب بالشأن المقاصدي وقف موقف المحايد، في إشارة إلى رفع القيادات البيروتية الغطاء عن المجلس الحالي لإدارة المقاصد خاصة بعد إعلان موقف دار الفتوى.

تؤكِّد مصادر بيروتية أنّ إدخال الحسابات السياسية والانتخابية وطرح سنّو نفسه مرشحاً لرئاسة الحكومة ومحاولته توزير نجله في حكومة الرئيس سعد الحريري التي لم يؤلّفها، وإعلانه سابقاً عن خوض الاستحقاقين النيابي والبلدي باسم المقاصد، وسعيه لتقديم ما يُحدثه من تغييرات في المقاصد كعيِّنة يمكنه القيام بها في حال وصوله إلى الرئاسة الثالثة كما يوحي بذلك إلى جهات فرنسية، كل ذلك سيؤدّي إلى مزيد من الرفض لهذا الاتجاه في المجتمع البيروتي، حيث تبدو الأمور ذاهبة نحو الضغط لاستقالة الرئيس ومجلس الأمناء وطيّ صفحة لم تتضمّن سوى الاضطراب في السلوك والعجز عن تقديم المخارج بعد أن حصل على فرصته في ولايتين متتابعتين.


MISS 3