إيمي ماكينون

حرب أوكرانيا الأخرى

5 نيسان 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

عنصر من جمهورية دونيتسك الشعبية الموالية لروسيا يحرس حاجزاً أمام مبنى شرطة إقليمي في مدينة سلوفيانسك | شرق أوكرانيا، 14 نيسان 2014

قبل 24 شباط من السنة الماضية، كانت عبارة "الحرب في أوكرانيا" تشير إلى صراع متفاقم في إقليم "دونباس" بين القوات الأوكرانية المسلحة ومنطقتَين انفصاليتَين تدعمهما روسيا: "دونيتسك" و"لوهانسك". أسفر ذلك الصراع عن مقتل أكثر من 14 ألف شخص منذ اندلاع الحرب في العام 2014، لكن قد يعتبره التاريخ الآن مقدمة للهجوم الشامل الذي أطلقه الكرملين في السنة الماضية.



يطرح كتاب Hybrid Warriors: Proxies, Freelancers and Moscow’s Struggle For Ukraine (المحاربون المختلطون: عملاء، وناشطون مستقلون، وكفاح موسكو من أجل أوكرانيا) للصحافية آنا أروتونيان تحليلاً عميقاً عن الأيام الأولى للغزو الروسي الضمني لأوكرانيا في العام 2014. تماشياً مع عنوان الكتاب، حصل ذلك الغزو على يد مجموعة غامضة من رجال الدولة ومسؤولين غير نظاميين. تُحلل أروتونيان دوافع مجموعة غير منظّمة من ميليشيات، وأوليغارشيين موّلوا الحرب، ومسؤولين روس أجّجوا الصراع وتخبطوا لفرض النظام وسط الفوضى. لقد اتّضح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليس خبيراً استراتيجياً بارعاً، فقد تشوّهت صورة الكرملين بسبب شلل عملية صنع القرار، وتوسّع مشاعر الارتياب، وضعف الاستخبارات. هذه العوامل كلها تطرح رؤية مختلفة عن جذور الحرب الراهنة.

انتقلت أروتونيان من العمل الصحافي إلى التحليل السياسي، وهي تتكل بشكلٍ أساسي على المرحلة التي خصّصتها لتغطية ضم شبه جزيرة القرم والأيام الأولى للحرب في "دونباس" لصالح صحيفة "يو إس إي توداي" وعملها مع "مجموعة الأزمات الدولية" (منظمة غير حكومية تسعى إلى منع الصراعات وحلّها). بدأت أروتونيان تُحضّر الكتاب قبل الغزو الروسي في شباط بوقتٍ طويل، وهي تعترف في المقدمة بأن الكتاب قد يزعج الكثيرين لأنه يطرح تحليلاً مفصلاً عن دوافع من أجّجوا الحرب في "دونباس"، في العام 2014، فيما تتابع القنابل الروسية ترهيب المدنيين الأوكرانيين اليوم. لكن تكمن أهمية الكتاب في هذا المجال بالذات.

يحمل الفصل الأول من الكتاب عنوان How a Bunch of Guys Started a War… (كيف أطلق عدد من الشبان الحرب....)، وتُعَرّفنا فيه أروتونيان الى الشخصيات التي حاولت استغلال الوضع في العام 2014 (بعضهم روسي وبعضهم الآخر أوكراني)، تزامناً مع عودة شبح الإمبريالية والظلم والنزعة الانفصالية غداة ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا والاضطرابات السياسية الكبرى في أوكرانيا، حيث أسقطت انتفاضة شعبية الرئيس الفاسد فيكتور يانوكوفيتش وأطلقت حقبة جديدة من الإصلاحات الطموحة.

كان كونستانتين مالوفييف وإيغور غيركين من أبرز مهندسي الأيام الأولى للحرب في "دونباس". مالوفييف هو أوليغارشي أرثوذكسي متديّن يعشق تاريخ الإمبراطورية الروسية وهو من قدّم التمويل للحرب. أما غيركين، فهو عضو سابق في الأجهزة الأمنية الروسية وقد أدار الجانب العسكري من الصراع. ظن الكثيرون سابقاً أنهما يتلقيان الأوامر والأفكار من المسؤولين الروس، لكن تكشف أروتونيان أنهما كانا يطرحان أفكارهما الخاصة أيضاً أمام كبار المسؤولين.

في نيسان 2014، قاد غيركين 52 رجلاً نحو الحدود الروسية وصولاً إلى "دونباس" حيث اندمجوا مع جماعات مسلّحة محلية. في بداية شهر أيار، تكتب أروتونيان أن "عمّال المناجم، وسائقي الشاحنات، ومجموعة من المتقاعدين المحليين ورجال الأعمال المشبوهين، وجيشاً من المغامرين المحليين والروس، شكّلوا حكوماتهم الظاهرية مع كل ما يرافقها من أعلام، وبرلمانات، ووزارات دفاع، وميليشيات، وإعلان استقلال، وحتى دساتير أولية".

كما حصل في مناطق انفصالية أخرى من الاتحاد السوفياتي السابق، تمكّن المقاولون الجيوسياسيون الروس ثم الكرملين من استغلال المشاكل المحلية في "دونباس". كانت هذه المنطقة تُعتبر القلب الصناعي لأوكرانيا، حيث ينظر الكثيرون إلى الثورة الديمقراطية التي بدأت من كييف ووضعت البلد على مسار موالٍ لأوروبا بعين الشبهة. تكتب أروتونيان أن المرحلة الأولى من الحرب كانت "مدنية بقدر ما كانت جيوسياسية، وقد تأجج الصراع بسبب الانقسامات المحلية وتدخّل موسكو في آن".

تُشدد مقابلات أروتونيان مع الانفصاليين المحليين في العام 2014 على طبيعة الهوية المعقدة على حدود الاتحاد السوفياتي السابق، ويُفترض أن تشكّل تحذيراً لكل من يتكلم عن احتمال تفكك روسيا بعد الحرب الراهنة. في الفصل الأول من الكتاب، سنتعرّف الى المواطنة الأوكرانية ديما والمواطنة الروسية ساشا. هما تحملان السلاح للقتال بأمرٍ من غيركين على الخطوط الأمامية ضد الجيش الأوكراني. توضح أروتونيان: "يشعر هذا النوع من الأشخاص بأن طريقة التعامل مع الروس توحي بأنهم أقل مستوى من الآخرين وأن لا مكان لهم في الوطن الأوكراني الجديد. جمع غيركين مجموعة متنوعة من المقاتلين المتمردين، لكنّ الأمر الوحيد الذي افتقر إليه الانفصاليون في الأشهر الأولى من الصراع هو حماية روسيا واعترافها بهم رسمياً".

أرسل الكرملين قوات روسية نظامية في آب 2014، وقد وثّق الصحافيون والحكومات الأجنبية هذا الحدث رغم إصرار موسكو على الإنكار. لكن يكشف تحليل أروتونيان للأشهر التي سبقت الغزو الضمني أن الأحداث تجاوزت توقعات الرئيس الروسي، فقد سعى الأوليغارشيون، والمشرّعون الروس، وحتى أجهزته الأمنية، إلى استغلال الوضع في "دونباس" وزادت جرأتهم بعد ضم شبه جزيرة القرم في وقتٍ سابق من تلك السنة. يعتبر الكثيرون بوتين صاحب السلطة المطلقة، لكن يدرك كل من يُحلل النظام الروسي عن قرب أن عملية صنع القرار داخل الكرملين تتخذ منحىً أكثر فوضوية. حين يضطرب الوضع، تقول أروتونيان إن بوتين يتبنى نموذج "الحُكْم بالإشارة" حيث تصبح إيماءات الرئيس وخطواته عرضة للتأويلات وسوء الفهم من مختلف الأفرقاء في النظام الروسي، لا سيما الفريق الذي يسعى إلى الاغتناء وتحقيق مشاريعه الخاصة في خضم هذه التطورات. يتعلق مثال معاصر بمجموعة المرتزقة "فاغنر" ومؤسّسها يفغيني بريجوزين الذي يُعتبر مستقلاً لكنه على صلة وثيقة بالدولة الروسية. كان دور هذه المؤسسة ورئيسها أساسياً في الحرب الروسية ويقال إنهما على خلاف مع وزارة الدفاع.

تحرك عدد كبير من الروس المستقلين في العام 2014 على أمل إعادة إحياء "نوفوروسيا" (كانت المنطقة الجنوبية الشرقية من أوكرانيا تُعرَف بهذا الاسم في عصر الإمبراطورية الروسية). في غضون ذلك، عجز بوتين عن التحرك لأنه أدرك أن مخاطر التدخّل ستكون مكلفة مقابل تراجع الدعم لهذه الخطوة. تكتب أروتونيان: "لو أطلق بوتين تدخلاً عسكرياً شاملاً، كان ليدفع الغرب إلى إطلاق رد أكثر صرامة وكان ليضطر على الأرجح لتقوية نظام لا يحظى بدعم حقيقي. لكن لو قرر بوتين التراجع بالكامل، كان ليثبت ضعفه أمام الأميركيين والقوميين في بلده. لم يكن يستطيع إذاً تطوير مشروع دونباس ولا التخلي عنه".

تكشف المكالمات الهاتفية التي تم التنصت عليها بين قادة المتمردين والمسؤولين في روسيا حجم الفوضى السائدة حين توسّل غيركين روسيا للحصول على تعزيزات عسكرية. هو قال لمساعِد الرئيس الجديد لشبه جزيرة القرم التي تحتلها روسيا، سيرغي أكسيونوف، خلال مكالمة هاتفية في 8 حزيران: "لن نتمكن من الصمود مطلقاً. ما نملكه الآن بالكاد يساعدنا على البقاء في مكاننا". في وقتٍ لاحق من ذلك الشهر، اتّهم غيركين المسؤولين في موسكو علناً "بتخريب الانفصاليين بطريقة منهجية"، وأصبح منذ ذلك الحين ناقداً بارزاً لطريقة تنفيذ أحدث غزو روسي لأوكرانيا. تنشر الصحافة الغربية رسائله على "تلغرام" بشكلٍ متكرر. يُذكّرنا كلام أروتونيان عن خيبة أمله بالكرملين بعد العام 2014 بقوة آرائه الشخصية في هذا الملف.

في نهاية المطاف، واجه بوتين مستنقعاً مشابهاً لما يواجهه اليوم. قد تؤدي أي نزعة إلى التخلي عن الجماعات المتمردة والناطقين باللغة الروسية في شرق أوكرانيا إلى إثارة استياء القوميين والإمبرياليين الروس، وهو الفريق الذي يسعى الكرملين إلى طمأنته. "بالنسبة إلى بوتين، كان ضرورياً أن يتابع هؤلاء الأشخاص اعتبار الغرب، لا الكرملين بحد ذاته، عدوهم الحقيقي". هذا الوضع يُجدّد التساؤلات حول عجز بوتين عن توقّع استفحال النزعة القومية بعد الغزو الأخير.

على مر أكثر من سبع سنوات، امتنع الكرملين عن الاعتراف باستقلال الجمهوريتَين الشعبيتَين "دونيتسك" و"لوهانسك". لم تتضح بعد جميع التفاصيل الكامنة وراء انتقال بوتين من البقاء على مسافة من تلك المنطقة إلى استعمالها كمبرر لإطلاق غزو كارثي ضد أوكرانيا. لا يستطيع الكثيرون توقّع نهاية هذه الحرب، لكن يعكس الصراع برأي أروتونيان "الأنفاس الأخيرة والعنيفة لإمبراطورية أصبحت على شفير الموت وتنذر بإطلاق كيان جديد من بعدها".


MISS 3