جوزيف حبيب

إيران والمرأة الحرّة و"لبن العبيد"

7 نيسان 2023

02 : 01

خلال رمي المعتدي اللبن على رأس الفتاة الإيرانيّة (لقطة من فيديو)

تُقاوم المرأة الإيرانيّة الحرّة اليوم باللحم الحيّ في وجه نظام الملالي وأجهزته وأتباعه، لا سيّما من خلال رفض ارتداء الحجاب الإلزامي في الجمهوريّة الإسلاميّة. هذا الاعتراض بحدّ ذاته بات السلاح الأمضى بيد الثائرات اللواتي يرفضنَ الإلتزام بقواعد النظام الإسلامي القائم في إيران. بيد أن الأمر ليس بهذه السهولة وسط مجتمع يضمّ في أوساطه متزمّتين لا يعترفون بالتعدديّة والتنوّع والحرّية وحقوق المرأة، ولا ينظرون إلى الحياة وشؤونها وشجونها إلّا من «ثقب» المنظار العقائدي الضيّق.

لم تمرّ مرور الكرام الحادثة داخل أحد متاجر شانديز في مدينة مشهد الإيرانيّة، حيث هاجم رجل بلباس مدني أمّاً وابنتها غير المحجّبتَين لفظيّاً قبل أن يرمي اللبن على رأسيهما احتجاجاً على عدم ارتدائهما الحجاب، إذ ضجّ العالمَان الواقعي والافتراضي في إيران والخارج بالمواقف الشاجبة لتصرّف الرجل غير الأخلاقي، فيما وصفه ناشطون معارضون بـ»الرجعي والمتخلّف والحقير والعبد...». وما زاد الطين بلّة أن السلطات سارعت إلى اعتقال المعتدي والضحيّتَين وصاحب المتجر الذي تدخّل للدفاع عنهما.

المعتدي، إن كان مدنيّاً أم رجل أمن، بتصرّفه هذا، إنّما يُعبّر عن «عقليّة وثقافة» جماعة لا تؤمن بالاختلاف، لا بل تُريد فرض إيديولوجيّتها المعلّبة على الآخرين بالقوّة. وهذا الفيديو المتداول ليس سوى نقطة في بحر الممارسات القمعيّة بحقّ المنتفضين في إيران، لا سيّما الفتيات والنساء بينهنَّ، الأكثر عرضة للانتهاكات النفسيّة والجسديّة على حدّ سواء. ذهب بعض الناشطين، ومن باب السخرية، إلى توجيه الشكر للمعتدي لأنّه لم يسكب «الأسيد» على وجهيهما، أو لم يُعرّضهما إلى نوع من الغاز السام كما يحصل مع آلاف الفتيات الإيرانيّات داخل مدارسهنَّ في أنحاء البلاد كافة منذ أشهر.

ما تواجهه الفتيات والنساء في إيران وصمودهنَّ وجرأتهنَّ، يتخطّى بأشواط ما تَصوّره لهنَّ أشدّ المتفائلين مع قضيّتهنَّ. وأثبتت المرأة الإيرانيّة أنّها الأكثر جرأة على مواجهة النظام وأدواته وأنصاره، انطلاقاً من داخل البيت العائلي مروراً بصفوف المدارس والمعاهد والجامعات، وصولاً إلى أماكن العمل والحافلات والمتاجر والشوارع والساحات، على الرغم من صدور تقارير لمنظّمات حقوقيّة وإنسانيّة دوليّة وإيرانيّة عاملة في الخارج تكشف قصصاً مروّعة لحملة اضطهاد ممنهجة تُمارسها الأجهزة الأمنيّة بحقّ المرأة تحديداً، لتخويفها واخضاعها من خلال العنف الجسدي والجنسي والنفسي والمعنوي... وبالتالي كسر روح الثورة والمقاومة فيها، الأمر الذي لم يستطع النظام قطف ثماره، لا بل حصد نتيجة معاكسة تماماً لمبتغاه.

تُقاتل المرأة الإيرانيّة من أجل أبسط حقوقها وحرّياتها وكرامتها، وتتعاطف معها وتتفاعل جميع المضطهدات اللواتي يسعينَ حقيقةً إلى حياة أفضل، من أفغانستان واليمن إلى نيجيريا ومالي وغيرها. لكنّ كلّ نضالهنَّ ونضال غيرهنَّ في دول أخرى لن ينتصر ويتجسّد واقعاً معيوشاً بوجود أنظمة وجماعات شموليّة لا تعترف بالتعدديّة المجتمعيّة والدينيّة والثقافيّة... وبالحرّيات وحقوق الإنسان. وهذا ما يدفعهنَّ إلى إكمال ثورتهنَّ من أجل احداث التغيير المنشود أو أقلّه تعبيد الطريق أمام الأجيال القادمة وزرع «البذور المجتمعيّة» الصالحة التي تُمهّد لـ»ساعة القيامة» اجتماعيّاً وثقافيّاً وسياسيّاً.

التغييرات في البنى التحتيّة المجتمعيّة تأخذ مداها التاريخي الطويل ولا تحصل بين ليلة وضحاها. وفي الأثناء، تبقى المشكلة مع أولئك الذين يعتبرون أنفسهم أوصياء شرعيين على المجتمع، وهم ليسوا بأقليّة في إيران. وهذا ما دفع «الرجل المتخلّف» إلى رمي اللبن على رأس الشابة ووالدتها، من دون أن يفعلا له شيئاً على الإطلاق. فلقد كانت المسألة بالنسبة إليه، كما لأمثاله، متعلّقة فقط بأنّهما خرقتا «خطوطاً حمراً» مرسومة في ذهنه عبر عدم ارتدائهما الحجاب. وهذه التصرّفات ليست مستغربة في دولة قُتلت فيها الشابة مهسا أميني بعد توقيفها من قِبل «شرطة الأخلاق» لأنّها انتهكت قواعد اللباس الصارمة، في حين قُتلت بعدها عشرات الناشطات والمتظاهرات بوحشيّة خلال حملة القمع الدمويّة لثورة «إمرأة، حياة، حرّية».

لكلّ إنسان الحقّ في العيش بالطريقة التي يراها مناسبةً له، شرط ألّا تؤثّر سلباً على حياة الآخرين. وهنا تكمن عين المعضلة مع المتديّنين العقائديين المتشدّدين الذين يُريدون فرض إرادتهم على محيطهم، ونظرتهم للحياة على المجتمع بأسره. الحلّ في إيران، بنظر ناشطين معارضين، يبدأ بكلّ بساطة عندما يسقط النظام الثيوقراطي الذي تسبّب بمعاناة هائلة للمجتمع منذ انتصار «الثورة الإسلاميّة» عام 1979. وسقوط نظام وتشييد آخر يحترم الحرّيات وحقوق الإنسان ويُحافظ على التعدديّة ويُطبّق المساواة الفعليّة والعدالة الحقيقيّة، مرتبطان بحركيّة موازين القوى الداخليّة الدقيقة وبخيارات الإيرانيين ووعيهم وإرادتهم ونضالهم وقراراتهم، بينما تبقى الفتيات والنساء الإيرانيّات المنتفضات على طريقتهنَّ العلامة الفارقة التي تُعطي الأمل بغد مشرق بعيد عن القتل والاغتصاب والقمع والاضطهاد... و»لبن العبيد»!


MISS 3