بشارة شربل

لا "أهلية" ولا "حرب الآخرين"

14 نيسان 2023

02 : 00

يحق للبنانيين عموماً قبل الصحافة تذكُّر يوم 13 نيسان. فالإعلام يتخذه سنوياً حجة إما ليُسقط عليه واقع الحال، أو ليُظهر دواخل الحقد الأهلي المعتمل في نفوس الكتبة أو المستصرَحين، أو للتفجع وإظهار القدرات الانشائية في التعبير.

أمس لم يصادف "اليوبيل الفضي" أو"الذهبي" ليتم هذا "الاحتفال المهيب" المليء بالثرثرة وبتفخيخ المصطلحات وتضليل الرأي العام، بدل تنبيهه الى ان سنتين دمويتين من عمر "الجمهورية الأولى" لم تكونا "زمناً جميلاً" يُفتخر به، ولا يجوز الحنين اليهما أو بناء مواقف آنية استناداً الى مجرياتهما.

لنتفق أولاً على أن "اتفاق الطائف" أنهى الحرب وأنه "الزيح" الذي رسمناه لئلا نعود الى وراء. واحترام "الزيح" لازمٌ لئلا نبقى في ذهنية الثأر والقلق ونعاود نبش الأحقاد وتحويل "الشهداء" مشاعل لاستدراج حرائق، بدل منارات ذكريات لئلا تستعاد.

نسمّيها "حرب السنتين" اختصاراً. لم تكن "أهلية" صرفة، لأنها لم تكن لبنانية - لبنانية بدليل الدور القتالي الأساسي للفلسطينيين، ولا يسارية - يمينية بشهادة القتل المتبادل على الهوية، ولا اسلامية - مسيحية باعتبار أن الفريق "الاسلامي - الوطني" كان مطعّماً بنكهات مسيحية، مثلما انها لم تكن بالتأكيد "حرب الآخرين". ولأمانة البحث نقول إنها "أهلية - اقليمية" اختلط فيها التنازع الداخلي الكامن مع المستجدات في ظل "الحرب الباردة" بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، وخصوصاً أن التسليح السوري للداخل اللبناني سبق الحرب بسنوات، وأن "دورات" موسكو العسكرية بدأت في نهاية الستينات، وأن "المكتب الثاني" وزَّع سلاحاً على الموالين لمنطق الدولة.

مؤلمة كتابة التاريخ. نقول مثلاً إن "الحرب العالمية الثانية أودَت بستين مليون قتيل" ونقطة على السطر. ثم "سقط في حرب السنتين وتوابعها مئة ألف قتيل وفقد عشرات الآلاف وهُجّر مئات الآلاف". لكن، ما دمنا نعيش ترددات تلك الحرب التي "لا تنتهي من الانتهاء" لا بأس بالعودة السريعة لتصحيح بعض الوقائع والأفكار ولو بتبسيط شديد.

بُنيت "جمهورية الاستقلال" على ميثاق تَساكن دقيق يحتاج شعباً وجيراناً سويسريين. نصف لبنان الاسلامي لم يكن يريد الكيان، ونصفه الآخر توهَّم أنه ممكن بأرجحية مسيحية. لم يُكتب له أكثر من خمس سنوات حتى قامت "دولة اسرائيل" مع ما تعنيه من حدث استراتيجي هزَّ مشاعر المسلمين السُّنة خصوصاً والعروبيين عموماً. ثم جاء المد الناصري والنكسة التي حفرت عميقاً في الوجدان، وتلاهما العمل الفلسطيني المسلح من لبنان. كانت تلك التطورات أكبر من أن يتحمل اعباءها البلد الصغير، أو أن تَمنع المسيحيين من القلق على الوجود والمصير. وقياداتُهم بدورها قصَّرت في قراءة التغيرات الاجتماعية والديموغرافية والجيوسياسية وفي واجب تغيير عميق في النظام السياسي. فكان ما كان من أحداث متوالية، منذ قصف المطار في 1968، وسقوط مدن وقرى في يد اللادولة، قبل أن نُدشّن رسمياً الحرب في 13 نيسان 1975 بجريمة الكنيسة صباحاً ومجزرة البوسطة بعد الظهر في ذاك النهار الربيعي.

كتبَ الراحل محمد العبدالله متهكماً: "فتحتُ النافذة فإذا هي حرب أهلية". تلك دهشة شاعر رائع. أما طبول الواقع فكانت تردد بإصرار: تعالوا الى الحرب الأهلية لأنها قدَرُكم الآتي مهما تأخر.

لا أحد شهداؤه في الجنة وشهداء خصومه في النار. ظروفٌ ضاغطة وقناعات متضاربة دمرت "سفر تكوين" دولة الاستقلال، فالتهمت النار الجميع. نتذكَّر لنُحسنَ تشخيص المريض ونوعية العلاج منتبهين دائماً الى "الزيح"، وإلا قد نفتح النافذة مجدداً لنرى ما رآه شاعرنا الكبير.


MISS 3