على واشنطن حماية السوريين الهاربين من إدلب

11 : 18

في آخر معقل للمعارضة في سوريا، بدأت أسوأ مخاوف ملايين الناس تتحقق على أرض الواقع. بمساعدة الضربات الروسية الجوية الوحشية، استولت قوات النظام السوري على ثلث محافظة إدلب تقريباً خلال الشهرَين الأخيرَين، ما دفع أكثر من 900 ألف شخص من أصل 3 ملايين ونصف إلى إجلاء منازلهم والتوجه شمالاً نحو الحدود التركية المجاورة، حيث يقيم 800 ألف آخرون في مخيمات مكتظة بعد تهجيرهم.


تُعتبر الموجة الأخيرة من هرب اللاجئين من إدلب (حوالى 80% منهم نساء وأولاد) أكبر حركة هجرة جماعية في الصراع السوري القائم منذ تسع سنوات. أمام هذا الوضع، تشعر وكالات الإغاثة بالإرباك وأصبحت المواد الغذائية شحيحة. وبما أن المخيمات، وحتى المباني العامة بالقرب من الحدود التركية، تستضيف أصلاً أكبر عدد ممكن من اللاجئين، اضطر 170 ألف نازح للمبيت في مبانٍ غير منجزة أو في الحقول أو على الطرقات، وسط درجات حرارة تصل إلى ما دون الصفر في أوقات كثيرة. مات عدد من الأطفال والأولاد الصغار في هذه الظروف.

مصير هؤلاء المدنيين معروف في حال قبض الجيش السوري عليهم. سيتم اعتقال عشرات الآلاف، بينما يُقتَل عدد كبير منهم بكل بساطة. طرحت منظمة العفو الدولية و"هيومن رايتس ووتش" واللجنة التابعة للأمم المتحدة للتحقيق بشأن سوريا تفاصيل عن الأعمال الوحشية التي ارتكبها نظام الرئيس بشار الأسد ضد المدنيين وحتى عمّال الإغاثة. حين تصل قوات الأسد إلى الحدود التركية، سيواجه اللاجئون مصيرهم القاتم إلا إذا سمحت لهم تركيا بالعبور.

لكن تستضيف تركيا أصلاً 3.6 ملايين سوري وبدأ صبرها ينفد من هذا الوضع. تعجز تركيا عن استيعاب موجة جديدة ومكثفة من اللاجئين، لذا نشرت قواتها في إدلب على أمل أن تردع التقدم السوري. هدّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإرجاع الجيش السوري إلى الموقع الذي كان فيه قبل بدء هذه الجولة الأخيرة من القتال في إدلب. لكن تسيطر الطائرات الحربية الروسية على المجال الجوي فوق غرب سوريا، ولا تريد أنقرة أن تواجه موسكو وحدها في إدلب (لن يدعم حلف الناتو الدفاعي الذي تنتمي إليه تركيا القوات التركية في عملياتها خارج الحدود المحلية). سبق واستهدفت قوات النظام السوري، بدعمٍ من الطائرات الروسية، المواقع التركية وقُتِل 13 جندياً تركياً نتيجة هذه العملية. بدأت أنقرة ترسل التعزيزات العسكرية، لكن تتصرف القوات التركية بدرجة من ضبط النفس، فقد سمحت للجيش السوري بالعبور أو حتى بالإحاطة بها أثناء تقدّمه.

في 17 شباط الماضي، تعهد الأسد باسترجاع سيطرته على كامل إدلب. توقف قواته تقدّمها أحياناً ثم تتابع التحرك من جديد، فتُرسّخ مكانتها ميدانياً في المواقع التي تتراجع فيها المقاومة. إذا كانت تركيا تعجز عن كبح تقدم الأسد، ستضطر لفتح حدودها. وبما أنها لا تستطيع استقبال عدد كبير من اللاجئين، ستسمح لجزء منهم، أو لمعظمهم على الأرجح، بالعبور ومتابعة مسارهم نحو أوروبا، كما فعلت أخيراً. هذه الموجة من اللاجئين السوريين أوسع من تلك التي شهدها العام 2015 وكانت كفيلة بِقَلْب السياسة الأوروبية رأساً على عقب وأدت إلى زيادة تأييد اليمين المتطرف في بلدان كثيرة.

أفضل بديل متاح

قد يضمن الوجود التركي العسكري الواسع تأجيل أو إلغاء المواجهات في اللحظة الأخيرة في إدلب. لكن تتطلب أي مقاربة حذرة تحضير خطة بديلة مسبقاً. لتجنب التدخل العسكري الأميركي المباشر، يقضي أفضل خيار بإنشاء منطقة آمنة تقع على الجانب السوري من الحدود التركية وتدافع عنها الأنظمة المضادة للطائرات والمدفعيات والصواريخ التركية الواقعة على الجانب التركي من الحدود. إذا اقتربت الطائرات السورية من المنطقة الآمنة، تستطيع الدفاعات الجوية في تركيا أن تستهدفها في المجال الجوي السوري. قد تكون هذه الخطوة كافية لردع الجيش السوري. توقّف المقاتلون السوريون أصلاً عن التحليق في المناطق التي استعملت فيها المعارضة السورية المسلّحة صواريخ تركية لإسقاط مروحيتَين سوريتَين في وقتٍ سابق من هذا الشهر. لكن إذا لم تكن تلك الخطوة كافية وأطلقت الوحدات السورية الميدانية النار على المنطقة الآمنة أو اقتربت منها، قد تتمكن تركيا من التصدي لها بنيران المدفعيات والصواريخ، بالتنسيق مع المقاتلين في المعارضة السورية. قد يقتصر عمق المنطقة الآمنة على أقل من عشرة أميال، أي بقدر المسافة التي يستطيع الجيش التركي تغطيتها بسهولة على جانبه من الحدود.

المنطقة الآمنة ليست فكرة جديدة، لكنها ترافقت مع مجموعة سلبيات دفعت إدارة أوباما إلى التخلي عنها. تتعلق أكبر مشكلة محتملة بكيفية حماية المنطقة الآمنة بحد ذاتها. لا شك في أن القوات السورية ستختبر تلك المنطقة، ما يستوجب رداً دفاعياً تركياً. وإذا دعمت الطائرات الروسية التوغل السوري وأطلقت النار على الوحدات التركية التي تدافع عن المنطقة من داخل تركيا، سيضطر حلف الناتو لتطبيق المادة الخامسة من ميثاقه للدفاع عن سيادة تركيا ووحداتها العسكرية. هذا الالتزام قائم منذ أن انضمّت تركيا إلى الناتو قبل 68 سنة، لكنه سيواجه الآن أصعب اختبار على الإطلاق. لقد انتهكت روسيا وسوريا المجال الجوي التركي أو أطلقت النار باتجاه تركيا في مناسبات متعددة منذ العام 2014. لكن لم يسبق أن شهد الحلف في تاريخه هذا الشكل من القتال المحتدم بالقرب من حدود إحدى الدول الأعضاء. يكثر منتقدو تركيا في واشنطن وعواصم أخرى منتسبة إلى الناتو، فهم مستاؤون من إقدام تركيا على شراء نظام دفاعي جـــوي روسي، ومن سجلها المريع في مجال حقوق الإنسان، وعدائيتها تجاه الميليشيات الكردية السورية التي تتعاون مع واشنطن ضد تنظيم "داعش". لكنّ إدلب ليست المكان المناســـب لتصفية الحسابات مع أنقرة. إلى جانب المجازفات الهائلة على المستوى الإنساني، قد تضطرب أوروبا مجدداً بسبب توافد أعداد ضخمة من اللاجئين الجدد إليها، لذا يتعين على الناتو أن يدعم تركيا إذا كانت قواتها تدافع عن منطقة آمنة على الحدود السورية.


تقليص المخاطر

لتخفيض احتمال المواجهة بين الناتو وروسيا، يجب أن تكون رسالة واشنطن وعواصم الناتو واضحة: تعترف الدول الأعضاء في الحلف بأن المنطقة الآمنة جزء من سوريا ويُفترض أن تعود إلى سيطرة الحكومة السورية بعد التوصل إلى حل سياسي للحرب القائمة. كذلك، يجب أن يدعم أعضاء الناتو المسار السياسي الشاق الذي أطلقته الأمم المتحدة ويحظى بدعم روسيا أيضاً. في غضون ذلك، يجب أن يتوقف النظام السوري المستقل عن انتهاك المعايير القانونية الدولية بوحشيته التي تدفع ملايين المواطنين إلى الهرب إلى دول مجاورة وتُمعن في زعزعة الاستقرار. أخيراً، سيدافع الناتو عن حدود الدول الأعضاء فيه.

عدا عن صعوبة الدفاع عن المنطقة الآمنة، ستحتاج تركيا والمجتمع الدولي إلى مراقبة الباحثين عن الحماية هناك، ما يعني طرد المجاهدين الذين يختلطون مع المدنيين الهاربين. لن ترغب الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو في الدفاع، ولو بشكلٍ غير مباشر، عن مساحة ضيقة تطغى عليها جماعات إرهابية. في الحالة المثلى، يجب أن يمرر مجلس الأمن قراراً يسمح بنشوء المنطقة الآمنة وبتكليف مراقبين دوليين بوضع آليات المراقبة المناسبة ونشر دوريات شرطة يقبل بها أعضاء الناتو وروسيا. كذلك، قد يسمح قرار مجلس الأمن لعمال الإغاثة بالوصول إلى المنطقة الآمنة.يتطلب أي قرار في مجلس الأمن موافقة روسيا طبعاً، ولن توافق موسكو من دون أي حوافز تشجيعية. لذا يجب أن تستعد البلدان الغربية للتنازل.

قد تهتم موسكو على الأرجح برفع عدد من العقوبات الكثيرة المفروضة على النظام السوري. يستطيع الغرب أن يُعلّق مثلاً العقوبات التي تمنع تسليم النفط إلى سوريا. إنها خطوة مفيدة لمساعدة حليف روسيا في دمشق. وإذا أصبحت المنطقة الآمنة خارج السيطرة بسبب التحركات العسكرية السورية أو الروسية، ستتجدد تلك العقوبات حتماً.في مطلق الأحوال، لن تكون المنطقة الآمنة حلاً طويل الأمد. لكنها ستكبح أزمة حادة ووشيكة حين يستأنف الجيش السوري تقدّمه تحت المظلة الجوية الروسية.

لم يعد النصر السوري الروسي في إدلب بعيد المنال، ولن يجد ملايين المدنيين حلاً آخر عدا الهرب نحو أوروبا. يجب أن تبدأ واشنطن بتحضير أسس المنطقة الآمنة الآن، ما يعني أن تطلق محادثاتها مع موسكو فوراً للتأكيد على رفض توافد اللاجئين باتجاه تركيا، وتحديد طريقة التعرّف على المجاهدين، ورسم معالم المنطقة الآمنة، وتنظيم تدابير وقف تصعيد الوضع منعاً لإسقاط طائرة روسية أخرى داخل تركيا. تعني هذه الخطوات أيضاً حصد تأييد أعضاء الناتو للخطط التركية وتنظيم رد إنساني دعماً للمنطقة الآمنة. قد يبدأ هجوم الجيش السوري المقبل خلال أسابيع، وبالتالي لا مجال لتضييع الوقت!


MISS 3