علي أبي رعد

صندوق النقد الدولي... الفرصة الأخيرة للبقاء؟!

19 نيسان 2023

02 : 00

لم يكن تقرير وفد صندوق النقد الدولي خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت مُبهماً، بل جاء واضحاً لمن يُريد الاستماع. فجاء بما معناه أن لبنان دخل في نفق مظلم يصعب رؤية الضوء في آخره، ما لم يقم الثلاثي المتمثل بالبرلمان والحكومة والمصرف المركزي بخطوات جدية، توصلنا إلى نهاية النفق.

كما كان البنك الدولي وصف الانهيار الإقتصادي في لبنان، بأنه بين الأسوأ في العالم وفي تاريخ لبنان...

وبينما كان وفد صندوق النقد الدولي يقول كلمته ويُغادر، حلّت مُساعدة وزير الخارجيّة الأميركيّ لشؤون الشّرق الأدنى باربرا ليف في بيروت بصفتها ممثلة بلدها على الطاولة الخماسية في باريس، والتي تضمّ إلى جانب أميركا السّعوديّة وفرنسا ومصر وقطر للنظر بالوضع اللبناني لا سيما انتخاب الرئيس والمضي قدماً في الاصلاحات.

التقت باربرا ليف المسؤولين اللبنانيين، و تحدثت معهم عن الأولويّاتٍ الأميركيّة في لبنان والتي أدرجتها بالآتي:

- إنتخاب رئيس الجمهورية وتكوين السلطة والقيام بالإصلاحات المطلوبة.

- تعيين الهيئة الناظمة للكهرباء لاستكمال الرّبط الكهربائيّ مع الأردن.

- الإتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي لنيل استثمارات أو مُساعداتٍ جديّة. والصندوق هو الفرصة الأخيرة للإنقاذ واصفةً الوضع بأنه سيزداد سوءاً. وقد يحصل الانهيار الكامل قبل نهاية السنة ما لم يتم تدارك الوضع والإسراع بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة.

وكان صندوق النقد الدولي أعلن في نيسان 2022 توصله إلى اتفاق مبدئي مع لبنان على خطة للمساعدة بقيمة 3 مليارات دولار على 4 سنوات. ولبنان يحتاج الصندوق لتجديد الثقة به أمام المؤسسات المالية الدولية لإعادة فتح مسار التدفقات المالية الإستثمارية إلى الداخل، واقناع حملة سندات الدين العام بإعادة جدولة الدين على فترات متباعدة، بعد أن وصلت خسائر النظام المالي إلى 73 مليار دولار، سيما وأن الإقتصاد اللبناني يُعاني حالياً من أزمة ركود تضخمي (ركود اقتصادي وبطالة وتضخم وارتفاع أسعار بنفس الوقت...).

بعض الأسباب

هذا الواقع الكئيب، أنتجه النظام السياسي التحاصصي المافيوي والنظام الإقتصادي والسياسات المالية والنقدية المعتمدة منذ العهود والحكومات المتعاقبة. ومثال على ذلك وليس على سبيل الحصر، ان هذه السياسات أدت إلى استنزاف الإحتياطيات النقدية في عدة طرق بينها سياسات الدعم للمواد الأساسية والمحروقات. وكانت سياسات مثل دعم المشتقات النفطية والدواء تهدف إلى دعم شركات الإستيراد لهاتين السلعتين المملوكة او المدعومة من أحزاب السلطة، بينما كان المفروض إطلاق البطاقة التموينية، التي طُرحت أكثر من مرة، لكن طويت في أدراج النسيان. يُضاف إلى هذه الأمثلة أرباح المصارف الفاحشة وتبديد الودائع وسوء الإدارة والمواقف السياسية والميدانية التي جلبت المزيد من العداوات غير المُبررة ما جعل لبنان محُاصراً يتخبط بأزماته.

في هذا الوقت راحت السلطة تُضيّع الفُرص، وتحاول اللعب مع صندوق النقد الدولي بتمييع المطالب الأساسية كما اعتادت على هذه الألاعيب مع الشعب، وأخذت تتشاطر على الصندوق من خلال القيام بإجراءات تتعدى تنفيذ الشروط المطلوبة من قبل الصندوق بل تتخطاه.

فنفذت سياسة تقشفية لا بل تجويعية لجهة تدني الأجور والتقديمات للموظفين في القطاع العام، ورفع الدعم عن كافة السلع لا سيما الأساسية منها كالوقود والدواء، وزيادة الضرائب وخفض الإنفاق الإستثماري، وتحرير سعر الصرف الذي خفّض القيمة الشرائية للعملة بنسبة 97%، وآخرها الدولرة الكاملة لتسعير السلع في ظل ظهور خجول لردات الفعل الشعبية.

في حين أن صندوق النقد يصر على حماية صغار المودعين من خلال معالجة كل وديعة بوديعتها، وذلك لحصر الودائع الكبيرة والحسابات التي استفادت من الهندسات المالية.

في المقابل تمَّ تجاهل الإجراءات الضرورية للقيام بالإصلاحات الإقتصاديّة الحقيقية. وهذا ما أشار إليه صندوق النقد في تقريره إلى أن هذه الجهات الثلاث لم تقم بأي إجراءات بنيوية للإصلاحات تؤدي إلى الخروج من الأزمة الإقتصادية والمالية والنقدية، لا بل أن الإجراءات التي قامت بها أدت إلى تراجع الإقتصاد بنسبة 40% وزيادة العجز في الميزان التجاري واضمحلال الطبقة الوسطى والتحاقها بطبقة الفقراء.

إستنزاف الاحتياطي

كما أن تعاميم مصرف لبنان لا سيما تعدد سعر الصرف، عززت المضاربة على الليرة اللبنانية وأدت إلى إنهيار قيمتها، في ظل غياب الرؤية التصحيحية على المدى المنظور... ما قد يدفع أكثر نحو الإقتصاد النقدي أي الإقتصاد المدولر، وهذا النوع من الإقتصاد يُساعد على التهرب الضريبي وتبييض الأموال لأنه لا يمر عبر قنوات الإقتصاد الرسمي ولا يُغذي الخزينة العامة...

وقد لاحظ وفد صندوق النقد الدولي استمرار المصرف المركزي بتمويل الدولة لتسيير المرافق العامة بدل البحث عن مصادر إيرادات خارج هذا النزف... كما لاحظ أن الخطوات التي قامت بها السلطتان التشريعية والتنفيذية ومصرف لبنان أدت إلى ضياع الإحتياطي، الذي كان قبل الأزمة 36 مليار دولار فيما تراجع إلى ما دون 10 مليارات دولار الآن. وهذا بحد ذاته ووفقاً لصندوق النقد الدولي خطر كبير قد يوصل لبنان إلى مفترق طرق صعب جداً، ومشهد سوداوي طالما إستمرت التصرفات على حالها.

وكان صندوق النقد الدولي طلب إعادة هيكلة النظام المصرفي الذي يتعدى أزمة السيولة إلى إعادة تقييم الملاءة بسبب الفجوة بين الموجودات والمطلوبات، وتعديل قانون تعديل السرية الذي يسمح بوصول الجهات الرقابية إلى الحسابات المصرفية لأصحاب المصارف وما جنوه من أرباح ومكاسب خيالية في الوقت السابق للأزمة.

كما كان الصندوق قد اشترط التزام الحكومة بتنفيذ إصلاحات مسبقة، وإقرار البرلمان لمشاريع قوانين عاجلة، أبرزها قانون «كابيتال كونترول» الذي يقيد عمليات السحب وتحويل العملات الأجنبية من المصارف.

إضافة إلى كل ما سبق زادت شكوك صندوق النقد من قدرة الدولة على الإيفاء بالتزاماتها بعد أن بددت ما يقارب 70% من حقوق السحب الخاصة «SDR» التي حصل عليها لبنان من صندوق النقد الدولي التي وزعها على أعضائه بعد جائحة كورونا، وكانت حصة لبنان ما يُقارب 1.139 مليار دولار. وأودع المبلغ في حساب المصرف المركزي على أن يخصص لحساب الخزينة العامّة، وذلك بعد أن تعهّدت الحكومة حينذاك بعدم المسّ بهذه الأموال أو بالرجوع إلى المجلس النيابي في حال دعت الحاجة إلى الصرف منها. لكن حوالى 70% من هذه الأموال أُنفقت بصورة كبيرة على الدعم واستيراد الأدوية والقمح والكهرباء ودفع مستحقات القروض وجوازات السفر وغيرها من دون اللجوء إلى اعتماد معايير واضحة للمحاسبة والرقابة.

يعني أنّ ما تبقّى من أموال حقوق السحب الخاصّة هو ثلث المبلغ فقط أي ما يُقارب حوالي 392 مليون دولار.

لا إصلاحات

بعد عرض هذه الوقائع يتبين لنا، أن التأخير في إنجاز الإتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي، هو بسبب تلكؤ السلطة في تنفيذ مطالب الصندوق التي تمس بمصالح المنظومة السياسيّة والمالية القابعة على أنفاس اللبنانيين، يُضاف إليها أزمة انتخاب رئيس للبلاد قادر على إعادة الثقة، وفي هذا يُمكن التعويل على الإتفاق السعودي - الإيراني لحث الجهات المعرقلة على السير بانتخاب رئيس جديد، يتبعه حكومة قادرة سيما وأن لبنان مقبل على استخراج الغاز والنفط أواخر الصيف المتزامن مع الزيارة المرتقبة لوفد صندوق النقد الدولي...

كل هذا يجعل الإتفاق النهائي مع الصندوق بمثابة الضوء الخافت في نهاية النفق... هل نستعجل الوصول إليه قبل أن ينطفئ أو نضيع في المجهول؟ أسئلة قد تجيب عليها التطورات القادمة علماً أن من كان سبباً للأزمة لا يُمكن أن يكون مفتاحاً للحل، وكيف سترضى هذه السلطة بأن تُعاقب نفسها على ما اقترفته من جريمة بحق الوطن، أو أننا نتجه إلى تهبيط كل ما هو موجود وإعادة البناء من جديد.

(*) اكاديمي وكاتب اقتصادي