ثاتشر وأنوثتها الخطيرة!

15 : 34

لطالما اعتُبرت أول امرأة تتولى رئاسة حكومة المملكة المتحدة أشبه برجل وكان منتقدوها يشككون دوماً بأنوثتها. لكنها أجادت التعامل مع محاوريها الرجال بأعلى درجات الإتقان. كانت تعتبر نفسها غير داعمة للحركة النسوية لكنها شجعت النساء في بداية مسيرتها المهنية على بلوغ أعلى المناصب.


بعد يومين على وفاة مارغريت ثاتشر، في نيسان 2013، كرّم البرلمان البريطاني المرأة التي قادت المملكة المتحدة بين العامين 1979 و1990 لأكثر من سبع ساعات. لم يجرؤ أحد على التكلم عنها بالسوء، باستثناء نائبة واحدة: إنها الممثلة غليندا جاكسون التي تركت هوليوود ودخلت عالم مجلس العموم الأقل فخامة، فانتقدت هذه الأخيرة وزيرة الحكومة المحافظة السابقة التي توفيت عن عمر يناهز 87 عاماً.

أنهت جاكسون خطابها الخالي من الثناء خلال الجنازة عبر التوجه إلى زملائها في حزب "العمال" بعدما شددوا على أهمية ثاتشر باعتبارها أول امرأة تصل إلى منصب رئاسة الحكومة البريطانية. فسألتهم: "امرأة؟ ليست كذلك بحسب معاييري"! قد يكون هذا الكلام أكثر ما يتذكره الناس في مسيرة جاكسون السياسية.

من وجهة نظر تشارلز مور، رئيس التحرير السابق في صحيفة "ديلي تلغراف"، لم يكن التشكيك بأنوثة ثاتشر مسموحاً. كانت ثاتشر قد طلبت منه كتابة سيرتها الذاتية، فحصل على وثائق غير منشورة وأجرى مقابلات طويلة مع أصدقائها وزملائها ومع "المرأة الحديدية" شخصياً. على مر المجلد الأول من هذه السيرة، أكد مور أن "جنس" مارغريت هو عامل أساسي لفهم شخصيتها ومسيرتها المهنية كلها.

طرح مور أمثلة عدة لإثبات تأثير جنس ثاتشر على مسار الأحداث. هي نجحت مثلاً في حرمان إدوارد هيث من منصب رئاسة حزب "المحافظين" لأنه استخف بها. يكتب مور: "لقد تفاجأ بقوة أمام فكرة أن تتحداه امرأة. اعتبر هذا الوضع غريباً وغير منصف لدرجة أنه عجز عن التعامل مع الموقف أو لم يجد المخرج المناسب".

بعد مرور سنوات، واجه الوزراء في حكومتها النوع نفسه من الاضطرابات. خسر رئيس الشؤون الديبلوماسية فرانسيس بيم في هذه المرحلة قوته أمامها، فقارنه مساعدوه بشخصية السنجاب في قصة "أليس في بلاد العجائب"، ما يعني أنه ينبهر بـ"ملكة القلوب": "كان بيم على الأرجح واحداً من أولئك الرجال النموذجيين من أبناء جيله الذين يمتنعون عن معارضة امرأة ويعتبرون ثاتشر مخيفة".

حتى الجيش الجمهوري الأيرلندي خسر توازنه عند مواجهة هذه المرأة، كما يقول مور: في العام 1981، دعت هذه المنظمة المعتقلين التابعين لها في سجن "مايز" في أيرلندا الشمالية إلى الإضراب عن الطعام، على افتراض أن ثاتشر ستتنازل على الأرجح أمام هذا التحرك "لأنها امرأة".

وخلال حملة الانتخابات التشريعية في العام 1979، أوصاها مستشاروها برفض المشاركة في مناظرة مباشرة على التلفزيون مع رئيس الوزراء المنتهية ولايته، جيمس كالاهان، من حزب "العمال": "إذا تفوقت عليه، سنصبح أمام رجلٍ تعرض للإهانة على يد امرأة، ما يؤدي إلى اضطراب عدد كبير من الناخبين الرجال".

بغض النظر عن رأي جاكسون أو هيث، أثبت مور بطريقة مقنعة أن معظم الأشخاص الذين قابلوا ثاتشر (لا سيما الرجال منهم) كانوا يرون المرأة فيها. قال فرانسوا ميتيران عنها يوماً إنها تتمتع "بعينَي كاليغولا وفم مارلين مونرو"! في المقابل، لم يستطع سلفه فاليري جيسكار ديستان منع نفسه من التفكير بالحاكمة الإنكليزية التي يعرفها منذ طفولته، فقال عنها: "لطالما كانت أنيقة ومتّزنة وتسريحتها مثالية. كانت مجتهدة وتقيّة وتفتح النوافذ دوماً، لا سيما إذا مَرِض الأولاد. لكن يمكن اعتبارها مملة بعض الشيء. حين قابلتُ السيدة ثاتشر لاحقاً، قلتُ في نفسي: لا تزال على حالها"!

كانت أول ردة فعل يبديها عدد كبير من الرجال تجاه مارغريت ثاتشر ذات طابع جنسي على نحو مفاجئ. بعد عشاء دُعِي إليه عشرة كتّاب بريطانيين من الطراز الرفيع، يقول الروائي أنطوني باول إنه أجرى تحقيقاً صغيراً كي يعرف إذا كان الآخرون يعتبرونها جذابة بقدره: "شاركني الجميع بلا استثناء هذا الرأي، بما في ذلك الكاتب فيديادار سوراجبراساد نايبول". ويكشف مور أيضاً أن الشاعر فيليب لاركين وقع تحت سحرها: "نادراً ما يكون رؤساء الحكومة كفوئين وجذابين في آن".

كذلك، كان الروائي كينغسلي أميس واحداً من المعجبين بها، واعترف ديفيد أوين، وزير الشؤون الخارجية في حكومة جيمس كالاهان، أمام أحد الصحافيين بما يلي: "ذلك العطر الأخاذ، ورائحة الويسكي الخفيفة المنبعثة من فمها... كم كانت جذابة"! في النهاية، يستنتج مور أن النجاح السياسي الذي حققته ثاتشر يتعلق في جزءٍ كبير منه بإعجاب الرجال بها.

يذكر مور عشرات الرسائل ويُركّز بشكلٍ أساسي على أولى تجاربها العاطفية مع رجال أكبر سناً بشكل عام. إنه سلوك مبرر: كما يحصل عند كتابة أي سيرة والحصول على وثائق غير منشورة، يريد الكاتب استغلال المواد التي يملكها لأقصى درجة. لكن أراد مور أيضاً أن يثبت بشكلٍ جازم أن رئيسة الوزراء البريطانية الأولى كانت تتمتع بالأنوثة فعلاً.

قد توافق شريحة واسعة من القارئات الداعمات للحركة النسوية على هذه الفكرة طوعاً، لكنهن يرغبن في معرفة مساهمات ثاتشر في قضايا المرأة. تزداد مهمة الكاتب صعوبة في هذا المجال. في جميع الحكومات التي شكّلتها ثاتشر على مر 11 سنة ونصف في السلطة، لم تُعيّن إلا امرأة واحدة. عدا عن هذا الاستثناء الوحيد والبسيط، لطالما كانت ثاتشر محاطة بالرجال، ولطالما تعرّضت للانتقادات لأنها منعت وصول نساء من بعدها ولم تعبّر عن أي تضامن صريح مع المرأة.

يذكر المؤرخ ريتشارد فينان في كتابه عن سنوات حكم ثاتشر أن "المرأة الحديدية" لم تكن تؤيد الحركة النسوية. حين استضافها برنامج تلفزيوني للأطفال، تمسكت بموقفها وقالت: "نجح معظم الناس في حياتهم من دون وجود حركة لتحرير النساء. [...] هذه الحركة هجومية جداً، وهي تُركّز على مسائل غير مهمة، حتى أنها تفتقر إلى الأنوثة. أليس كذلك؟ ما رأيكنّ يا فتيات؟ ألا تلاحظن أن حركة تحرير النساء تبدو هكذا أحياناً"؟

لكن يطرح مور من جهته عناصر غير متوقعة لإثبات العكس. في بداية مسيرتها السياسية، حين كانت مرشحة في فترة الخمسينات، ثم أصبحت نائبة في الستينات ووزيرة في السبعينات، عبّرت ثاتشر في مناسبات متكررة عن أفكار داعمة للمرأة، فدافعت عن مفاهيم تعكس اليوم شكلاً معيناً من مبادئ الحركة النسوية.

في العام 1960، كتبت مقالة صحافية بعنوان "الزوجة قادرة على التوفيق بين أولادها ومهنتها". وفي مقالة أخرى من العام 1952، بعنوان "أيتها النساء، استيقظن"، عبّرت عن دعمها للمرأة التي تكرّس حياتها لمهنتها من دون أن تكون "قاسية" أو تخسر أنوثتها بالضرورة، بل إنها قد تصبح رفيقة أفضل لشريكها في هذه الحالة.

كذلك، دعت ثاتشر إلى التخلص من بقايا الأحكام المسبقة ضد المرأة التي تطمح إلى تولي أعلى المناصب وسألت القراء: "ما المانع من أن تصبح المرأة وزيرة الخزانة أو وزيرة الشؤون الخارجية"؟وبصفتها نائبة ثم وزيرة الخارجية، عارضت ثاتشر أي تدابير مالية واجتماعية مسيئة للمرأة. خلال أول رحلة طويلة لها إلى الولايات المتحدة، طالبت صراحةً بمقابلة النساء المُنتَخبات في الكونغرس. كتب تشارلز مور حينها: "السيدة ثاتشر تسعى إلى تحقيق أهداف نسوية".

لكن حتى لو كان الوضع كذلك، من الواضح أن الزخم النسوي تراجع تزامناً مع تقدم مسيرتها السياسية، وتحديداً حين أثبتت أنها تستطيع تحقيق النجاح في عالمٍ كان حكراً على الرجال. ينتهي أول مجلد من سيرة ثاتشر خلال عشاء يحتفل بالانتصار في حرب الفوكلاند في العام 1982.

لم يكن مسموحاً أن تشارك الزوجات في العشاء على المائدة، بل يمكنهنّ بكل بساطة أن يرتشفن المشروب في الصالون. كانت ثاتشر إذاً المرأة الوحيدة في ذلك العشاء. بعد إلقاء خطابها وتبادل الأنخاب، نهضت رئيسة الحكومة وقالت: "يا سادة، ماذا لو انضمينا إلى السيدات الآن"؟ يقول مور: "كانت تلك اللحظة على الأرجح من أسعد اللحظات في حياتها".

في مطلق الأحوال، تبقى الفرضية العامة صحيحة: كان انتماء مارغريت ثاتشر إلى فئة النساء مؤثراً على تاريخها و"الأسطورة" التي خلقتها. من المعروف أن المرأة في السلطة تحتل مكانة مهمة في الذاكرة الجماعية البريطانية، والإنكليزية على وجه التحديد. بدءاً من بوديكا (ملكة قبيلة "إيكيني" الكلتية البريطانية) وصولاً إلى الملكة فيكتوريا، مروراً بالملكة إليزابيث الأولى، تركت النساء اللواتي بلغن أعلى المناصب تاريخياً آثاراً لا تُمحى في الضمير الوطني، مقابل عدد ضئيل من نظرائهنّ الرجال.

هذا هو مصير القائدات البارزات في بريطانيا، لذا لا يمكن أن تنطفئ أسطورة ثاتشر يوماً. يبذل هذا الكتاب قصارى جهده لوضعها في مصاف شخصيات مثل هنري الثامن والأدميرال نيلسون وونستون تشرشل. في هذا الإطار، يقول مور إن ثاتشر أصبحت بعد حرب الفوكلاند أول امرأة تقود الحروب وتحكم الجزر البريطانية منذ عهد إليزابيث الأولى.

كانت الجنازة شبه الوطنية التي حظيت بها، وهو شرف لم ينله أي رئيس حكومة منذ ونستون تشرشل، تهدف إلى جعل الناس ينسون أن ثاتشر اعتُبِرت من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في التاريخ البريطاني الحديث وإلى إعطائها مكانة موازية للرجال العظماء. لقد نجحت هذه المحاولة لمجرّد أنها امرأة!


MISS 3