عيسى مخلوف

شذرات من سيرة غير عاديّة

21 نيسان 2023

02 : 01

مهاجرون أوائل إلى أستراليا

في بلد كلبنان، تحوّل، منذ عقود من الزمن، إلى مصنع لإنتاج المهاجرين، على الأهل أن يؤمّنوا جوازات سفر لأبنائهم حتّى قبل أن يولدوا، مثلما يُحضّرون لهم ثيابهم الأولى. هذا هو الانطباع الأوّل الذي يخرج به من يقرأ كتاب "شذرات من سيرة ذاتيّة عاديّة" للباحث والأكاديمي اللبناني بول طبر، الصادر حديثاً عن "المنشورات الفرنسيّة للشرق الأدنى (سلسلة إفبوش).

يروي الكاتب سيرته الذاتيّة، بدءاً من زغرتا وإهدن، مسقط رأسه، ثمّ القبّة وطرابلس، حيث أقام الأهل، قبل أن يتوجّه والده إلى أستراليا، ويتبعه أفراد العائلة قبل سنوات قليلة من اندلاع الحرب الأهليّة في لبنان. من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الالتزام السياسي فالهجرة والعودة إلى التدريس في الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة، ثمّ "الهجرة الثانية" مجدّداً، لا نقرأ سيرة شخص واحد وحسب، وإنّما أيضاً سيرة مجتمع بأكمله وأوضاعه السياسيّة ومسار أموره المعقّدة جيلاً بعد آخر.

في هذا السياق، ومن منظور سوسيولوجي، يصف بول طبر الفضاء الاجتماعي الذي عاش فيه المرحلة الأولى من حياته في ستّينات القرن الماضي، كما يرصد من خلال إقامته في القبّة، في تلك المرحلة، بذور التعصّب الطائفي بين المسيحيين والمسلمين والتي نمت وترعرعت وغطّت بظلالها المجتمع اللبناني بأكمله. إضافة إلى ذلك، يتحدّث طويلاً عن هجرته التي بدأت في العام 1971، والظروف التي عاش فيها في أستراليا، لا سيّما في البداية، وعن الشعور بالغربة حيال اللغة والثقافة والمكان، وكذلك الشعور بالاقتلاع من البلد الأمّ. وهذا ما دفعه، مذ كان يتابع دراساته الجامعيّة، إلى بحث موضوع الهجرة العربيّة، وخصوصاً هجرة اللبنانيين إلى أستراليا، من زوايا مختلفة، منها "التمييز الإثني، و"ثقافة البيض"، والتعددية الثقافيّة، وعلاقة ذلك كلّه بالطبقة المهيمنة في أستراليا، لا سيّما الفئة "البيضـــاء" منها المستنــــدة إلى إرثها الكولونيالي الاستيطاني".

وهو يحدّد الهجرة بقوله إنها "تشظّي الجماعة (العائلة والأصحاب...) التي ينتمي إليها الأفراد، الأحياء والأموات على السواء". إضافة إلى التعمّق في موضوع الهجرة، درس بول طبر التكوين السياسي للبنان، وقد كرّس له أطروحته الجامعيّة في سيدني، ضمن حقل العلوم الاجتماعيّة والأنتروبولوجيا، المادّة العلميَّة التي درّسها في ما بعد في سيدني وفي بيروت.

التزامه السياسي وانخراطه في منظّمة العمل الشيوعي أخذا منحى آخر من خلال دراسته الواقع اللبناني في جوانبه المختلفة، والنظام السياسي في لبنان وظاهرة الطائفيّة، من خلال عمل بحثيّ من منظور علم اجتماعي سياسي تاريخي، وانطلاقاً من أسئلة يأتي في مقدّمها: "ما هي العوامل الاجتماعية، السياسية، التاريخية التي أفرزت الكيان اللبناني رسمياً العام 1920 وشكّلت الأسس التي بنيت عليها الدولة في لبنان؟ في المقابل، ما الذي أدّى إلى انهيار الدولة وزعزعة الكيان بعد انفجار الحرب الأهليّة في نيسان 1975؟"، كما ركّز على خصائص الطائفية كعلاقة سيطرة طاغية على مستوى البنية السياسية والبنية الاجتماعية في لبنان، كاشفاً عن الظروف التي جعلت من الدولة اللبنانية مشروع حرب أهليّة دائمة، سواء باللجوء إلى السلاح أو من دون سلاح.

يبيّن الكتاب أيضاً كيف تسافر النزعة الطائفيّة مع المسافرين إلى بلاد الاغتراب. ويروي، مثلاً، ظروف زواجه في أستراليا من امرأة يحبّها، لكنّها لا تنتمي إلى الطائفة نفسها التي ينتمي هو إليها (هو ماروني من زغرتا وهي شيعيّة من عيترون)، وكان ذلك مطلع الثمانينات، أثناء الحرب الأهليّة، ما دفع الأهل من الجهتين إلى الوقوف ضدّها بصورة قاطعة، لكنّ ذلك لم يمنع تحقيق الزواج. هذه التجربة قادت الكاتب إلى القول إنّ رفض الأهل لزواجه يدلّ على أنّ "الطائفيّة في لبنان ليست سياسيّة فقط، وإنما اجتماعيّة أيضاً وتتحكّم في صياغة الخيارات العائليّة والحميمية للأفراد". وأضاف أنّ الممارسات الطائفيّة لا علاقة لها بالإيمان والتقوى، بل هي، بخلاف ذلك، دليل على الكراهية والتفرقة وتكريس الانقسامات الداخلية ودحض مبدأ الدولة والمجتمع والهويّة الإنسانية المشتركة.

اللافت في هذا الكتاب جرأة الطرح أيّاً كان نوع المواضيع التي تطرّق إليها الكاتب، فهو انتصر للنقد الذاتي والموضوعي في آن واحد. في هذا المجال، وعلى سبيل المثال، يعترف بأنّ انبهاره بماركس والمفكّرين الماركسيين كان ثمنه عالياً إذ أدّى إلى عدم إيلائه الاهتمام الكافي، بل دفعه إلى الاستخفاف، بكل ما يناقض الماركسية وليس له علاقة بها.

طوال صفحات الكتاب، نتلمّس حالة الضياع والحيرة بين البقاء في أستراليا أو العودة إلى بلد لم يعد يملك أبسط مقوّمات البقاء، لكنه البلد الذي يوجد فيه الماضي، والكاتب "متمسك بالماضي كتمسّك الأم بوليدها الرضيع"، بحسب تعبيره. ويوجد فيه أيضاً "البيت الذي غادرناه وتركنا الأثاث فيه على أمل العودة المرتقبة إليه". وهنا يلحّ سؤال حول البلد بصورته الجغرافية والصورة المتخيّلة له، حول الحزب السياسي والنظرة الأولى "المنزَّهة" إليه، ورموزه التي لا تتطابق تماماً مع صورتها المثالية.



غلاف الكتاب



في ختام هذا الكتاب، الذي هو سيرة وطن في مقدار ما هو سيرة فرد واحد، وعلى الرغم من تأكيد الكاتب رهانه على انتفاضة السابع عشر من تشرين الأول 2019، نسمعه يقول: "تذكرة السفر التي اشتريتُها هذه السنة تختلف عن التذاكر في السنوات السابقة. إنها في اتجاه واحد ينطلق من بيروت إلى سيدني مروراً بمطار دبي. لقد انطوى فجأةً زمن شراء تذكرة السفر ذهاباً وإياباً إلى بيروت"...

الحياة قصيرة ولا تحتمل الانتظار كلّ هذه العقود من الزمن. كأنّ بول طبر - كغيره من الذين سافروا قَسراً من بلدهم، وأمضوا حياتهم ينتظرون العودة إليه والاستقرار فيه – استدرك أنّ الهوّة كبيرة بين الواقع والمتخيَّل. وبحديثه عن تذكرة السفر الناقصة، كأنّه يقول، وبحسرة كبيرة بالطبع: لقد انتظرناك طويلًا أيّها الوطن الحبيب، لكنّك لم تأتِ!


MISS 3