أردوغان والحلم المجنون

11 : 51

يثير مشروع قناة اسطنبول الذي يتمسك به الرئيس التركي قلق العلماء وخبراء البيئة والبلدان المجاورة...إنه "حلم" حقيقي برأي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان! ويقضي المشروع ببناء قناة بطول 40 كيلومتراً في اسطنبول كي تصبح صلة وصل بين بحر مرمرة والبحر الأسود. ظهرت فكرة هذا المشروع للمرة الأولى في العام 2011، ثم وُضِع جانباً لوقتٍ طويل، قبل أن يعود إلى الواجهة منذ بضعة أشهر.


أعلن وزير النقل التركي: "سنبدأ الأعمال في العام 2020 ونأمل في انتهاء المشروع بالكامل بحلول العام 2026". في المبدأ، يُفترض أن ينشأ هذا الموقع الضخم في العام 2023، تزامناً مع الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية، فيصبح بذلك رمزاً لـ"تركيا الجديدة" بقيادة الرئيس أردوغان الذي يريد أن يطرح نفسه كمؤسس البلد الجديد ويفضّل أن ينسى الجميع مصطفى كمال أتاتورك.

منذ تولى "حزب العدالة والتنمية" إدارة شؤون البلد قبل 18 سنة، حرص الرئيس أردوغان على ترك بصماته الخاصة في اسطنبول. بسبب مشاريعه الضخمة، تبدّلت معالم المدينة التي انتخبته رئيساً لبلديتها في العام 1994 وأعطت مصيره طابعاً وطنياً. يمكن اعتبار بعضها قيّماً، على غرار خط المترو تحت البوسفور. لكن تضع المعارضة جزءاً من المشاريع الأخرى في إطار الهدر المالي والكوارث البيئية، منها الجسر الثالث فوق المضيق أو جامع "تشامليجا" الضخم أو المطار الثالث. لكن تسمح هذه المشاريع التي تحمل رمزية كبرى بترسيخ دعم جزءٍ من ناخبي الرئيس وتحويل الانتباه عن أحداث أخرى في ظل سياق سياسي معقد. عملياً، يتعين على "حزب العدالة والتنمية" أن يتعامل مع استياء الشعب بسبب الأزمة الاقتصادية التي يمرّ بها البلد. على صعيد آخر، يجد الحزب صعوبة في تجاوز هزيمته القاسية في الانتخابات البلدية خلال السنة الماضية، حين أعلنت اسطنبول والعاصمة أنقرة عن دعمهما للمعارضة.تفوق كلفة هذه القناة التقديرية عتبة 11 مليار يورو، وتُعتبر في الوقت نفسه فرصة لمساعدة قطاع البناء على الخروج من حالة الركود التي أصابته، علماً أنه كان يشكّل في الماضي محرك الاقتصاد التركي.

لا يزال قطاع البناء والأشغال العامة أساسياً بنظر "حزب العدالة والتنمية" لأن أكبر عدد من داعميه وأكثرهم ثراءً هم رجال أعمال ينشطون في هذا المجال. لكن يستنكر معارضو المشروع هذا التواطؤ بين الطرفَين ويلفتون إلى أن جهات مقرّبة من السلطة ضاعفت استثماراتها في الأراضي التابعة لمواقع القناة المستقبليـة. يبرز من بينهـــم بيرات البيرق، صهر أردوغان ووزير المالية، فضلاً عن الأسرة الأميرية في قطر، فهي حليفة وفية لـ"حزب العدالة والتنمية" وتبدي تعاطفها مع إيديولوجيا "الإخوان المسلمين" بالقدر نفسه.

في بلدة "شاملار"، في شمال غرب اسطنبول، يشاهد السكان توافد المستثمرين باستمرار. هم يأتون من كل مكان منذ عشر سنوات، على رأسهم الأتراك والقطريون والعراقيون. تضاعفت أسعار الأراضي في هذه المنطقة عشرين مرة، ومع ذلك يؤكد مزارع متقاعد هناك أنه لن يبيع أرضه مطلقاً: "يقيم أسلافي هنا منذ 560 سنة! عليهم أن يطردوني بالقوة كي أرحل من أرضي"! جلس هذا المزارع وراء طاولة وكان يحمل كوباً من الشاي في يده، مقابل سد "سزليدير"، ثم راح يهاجم الحكومة بسبب إهمالها الفاضح: "تشكّل هذه البحيرة الاصطناعية مخزوناً للمياه الصالحة للشرب، وهي مصدر أساسي في اسطنبول. لكن عند بناء القناة، ستختفي هذه الموارد كلها لأن المياه المالحة ستجعل التربة غير مناسبة للزراعة وتتسلل إلى المياه الجوفية. أما هذه التلال أمامنا، فهي آخر مساحات خضراء مجاورة لاسطنبول، لكن سيغطيها الباطون قريباً"!



فضّل هذا الرجل ألا يكشف عن هويته وبرّر موقفه قائلاً: "لا نستطيع أن نعبّر عن رأينا بحرية من دون أن يعتبرونا أعداءً للوطن. أنا لا أريد أن أواجه المشاكل". أما رمزي غولباسي، فلا يتردد من جهته في التكلم بكل صراحة. هو يحمل رأياً مشابهاً، مع أن عائلته لا تقيم في هذه البلدة إلا منذ 500 سنة! يتذمر رمزي من الوضع القائم قائلاً: "لتحقيق مكاسب اقتصادية أو سياسية فورية، يصرّ المسؤولون على إطلاق مشاريع مكلفة مع أنها كفيلة بتدمير البيئة. لطالما أردتُ أن أترك هذه الأرض كإرث لأولادي الثلاثة، لكني لن أتمكن من ترك شيء لهم الآن". هو يشعر بالتشاؤم ويظن أن جميع المعطيات تشير إلى تنفيذ المشروع على أرض الواقع: "الوضع أشبه بما حصل في مشروع المطار. لقد نجحوا في بنائه في نهاية المطاف! لذا لا مفر من أن يبنوا القناة أيضاً". أصبحت خطط البناء قيد التنفيذ فعلاً.

قد تخسر المدينة آخر مساحاتها الخضراء المنعشة وخزاناتها المائية من جراء مشروع مطار اسطنبول الثالث الذي يُفترض أن يصبح الأكبر في العالم من حيث الأعداد التي يستطيع استقبالها (200 مليون مسافر سنوياً بحلول العام 2028). أدى هـــذا المشروع إلى القضاء على 13 مليون شجرة ووفاة مئات العمال، وفق إحصاءات النقابات. انطلقت محاولة إضراب احتجاجاً على المشروع لكنها قُمِعت بوحشية.

يعارض سكان اسطنبول أيضاً حفر القناة الجديدة لأنها قد تتحول إلى سبب آخر للمشاكل الدبلوماسية التي تواجهها تركيا. تخضع حركة الملاحة في البوسفور فعلياً لأحكام اتفاقية "مونترو" المُبرَمة في العام 1936، وهي تنص على حرية التنقل على طول المضيق. لكن كيف ستتمكن تركيا من إقناع السفن التجارية باستبدال ذلك الطريق بقناة تفرض عليها دفع المال (يُفترض أن توفّر هذه الرسوم 5 مليارات يورو سنوياً) من دون انتهاك شروط تلك الاتفاقية؟ لا يحمل الروس من جهتهم نظرة إيجابية إلى احتمال أن تتمكن السفن الحربية التابعة لحلف الناتو في نهاية المطاف من اختراق البحر الأسود عبر هذا المسار الجديد.

بعيداً من التعقيدات الجيوسياسية المحتملة، تشتد الاعتراضات على المشروع بشكلٍ أساسي نظراً إلى تداعياته البيئية. لكن تبرر الحكومة بناء قناة اسطنبول عبر طرح مخاوف بيئية مختلفة: بما أن حركة المرور البحري على البوسفور كثيفة جداً كما تقول، يعبّر الرئيس التركي في خطاباته دوماً عن قلقه من حصول حوادث مأسوية هناك، في إشارة إلى انفجار ناقلة "إندبندينتا" المحمّلة بالنفط الخام في العام 1979. تعليقاً على الموضوع، يقول كوراي توركاي، رئيس غرفة التخطيط المدني في اسطنبول: "هذه الحجج خاطئة وتهدف بكل بساطة إلى إخفاء الدوافع الاقتصادية الحقيقية وراء المشروع. تشهد حركة المرور على البوسفور تراجعاً مستمراً منذ بضع سنوات، ويتراجع معها عدد الحوادث الحاصلة. إذا كانت السلطات قلقة فعلاً من مخاطر تسرّب النفط، يكفي أن تمدّ شبكة من خطوط الأنابيب !".

عملياً، يحذر عدد كبير من العلماء وجمعيات الدفاع عن البيئة من المخاطــر المطروحة على الأنظمة البيئية البحرية لأن اختلاط مياه البحر الأسود العذبة مع مياه بحر مرمرة الأكثر سخونة وملوحة، من دون أن تنظّمها تيارات البوسفور، قد تؤدي إلى اضطراب التوازن الطبيعي القائم. يضيف توركاي محذراً: "قد نجد أنفسنا في مدينة مُجرّدة من آخر مساحاتها الخضراء ومخازنها المائية ومحاطة ببحرَين شبه ميتَين وغارقة في رائحة بيض فاسد بسبب كبريتيد الهيدروجين المنبعث من بحر مرمرة". لكن في النهاية من يستطيع الحؤول دون إرضاء غطرسة الرئيس أردوغان؟


MISS 3