كريم مروة

فكرة تؤرقني في هذه الأيام

10 آذار 2020

03 : 00

فكرة تؤرقني ذلك هو عنوان قصيدة منشورة للشاعر المجري القومي (بيتوفي) في القرن التاسع عشر يعبِّر فيها عن هواجسه ومشاعره كشاعر وكإنسان وكمواطن، في بلدٍ كانت تُسحق كرامته ويناضل شعبه ضد التاريخ والجغرافية من أجل حريته. وإذ أستعير اليوم من الشاعر المجري عنوان قصيدته لأعبِّر عن هواجسي ومشاعري وأفكاري كمواطن لبناني عربي، فلأنني ألتقي معه بفارق زمن يتجاوز القرن حول كل ما جاء في قصيدته المشهورة تلك. وقد كانت هذه القصيدة من أوائل النصوص الأدبية التي قرأتها باللغة الفرنسية ثم ترجمتها ونشرتها للغة العربية في صحيفة "الأخبار العراقية" التي كنت أنشر فيها مقالاتي في أواخر أربعينات القرن الماضي.

على أن ما يؤرقني اليوم وسط هذه العواصف المتمادية من الأحداث التي يشكل لبنان أحد مسارحها، وميدان الصراع فيها، وتشكل القضية الفلسطينية أحد محاور هذه العواصف، أن التذكير بما أوحت لي به قصيدة "بيتوفي" في هذه الظروف العاتية هو ما يؤرقني كشخص ومصير عائلتي ومصير شعبي ووطني وأمتي. فهذه المصائر هي المستهدفة من قبل ما يجري منذ سنوات عدة وما يجري في هذه الأيام الصعبة بالتحديد. ولست بحاجة لأن أبذل الجهد لإقناع أحد من اللبنانيين والعرب إلا من عميت أبصارهم وبصائرهم عن رؤية الحقائق والوقائع. فما يُراد، على سبيل المثال لا الحصر، من "صفقة القرن" البائسة مع إسرائيل بشخص نتنياهو مدعوماً من الرئيس الأميركي ترامب، هو السلام الذي لا يكفي نعته بالسلام الناقص وغير العادل كي نعبّر عن حقيقته، فهو سلام لا تستطيع أميركا وإسرائيل إدخال الفلسطينيين فيه إلا من باب الإذلال والقهر المتعارضين مع السيادة والحرية والكرامة والحق المقدس في تقرير المصير.

وإذا كانت الحقائق واضحة، وهي تصبح اليوم أكثر وضوحاً من أي زمن مضى، فإن على الفلسطينيين بالدرجة الأولى وأشقائهم اللبنانيين والعرب أن يكونوا في مستوى التعامل مع ما يسمى بصفقة القرن المشار إليها التي لن ترى النور، شرط أن يتعاملوا معها بأعلى قدرٍ من المسؤولية الاستثنائية والعودة الى المبادرة العربية للسلام التي انبثقت من اجتماع القمة العربية التي عُقدت في بيروت في العام 2002 والأساسي فيها حل الدولتين. والإشارة هنا الى هذه الحقائق وما يعنينا نحن كلبنانيين منها، هو ما تعبِّر عنه ثورة السابع عشر من تشرين الأول التي بات اللبنانيون يرون فيها مستقبلهم ومستقبل وطنهم، الذي تعبّر عنه الأهداف التي وضعها الثوار كمهمة تاريخية تعيد الى الوطن اللبناني الشخصية الأصلية بتعدد سماتها وتعدد مكوناتها في وحدتها الراسخة. وهو ما جرى التعبير عنه في ما صار معروفاً في الأدبيات التي سادت في الغرب على لسان المستشرقين والتي سادت في القرن التاسع عشر على لسان المفكرين اللبنانيين، بأن لبنان عبر التاريخ القديم والحديث هو صلة وصل ثقافية عريقة بين حضارات الشرق وحضارات الغرب.

في ضوء ما تقدم أكرر بأن ما يؤرقني اليوم هو أكبر من الفكرة وأخطر من حدث كبير طارئ أو حتى من عاصفة هوجاء بحجم الزلزال. ما يؤرقني ببساطة هو ألّا تكون قد نضجت بما فيه الكفاية مشاعر اللبنانيين وأشقائهم العرب مما يتهددهم أفراداً وشعوباً وأوطاناً في هذه الحقبة من تاريخ أمتنا وتاريخ العالم التي تختلف عن كل الحقبات السابقة.

إن توقّفي عند هذا الواقع الذي يؤرقني لا يقلل مما تعبّر عنه وتؤكده الثورة اللبنانية وما سبقها من ثورات عربية، لكنني أود أن أتعامل مع الأحداث الجارية وما قبلها وما بعدها بواقعية ومن دون الركون الى الأحلام. فمهمة التغيير بالغة الصعوبة وما يهمني هنا على وجه التحديد وطني لبنان. وأشير في هذا السياق الى واقع تاريخي يعود الى الشروط التي تكوّن فيها لبنان الكبير في العام 1920 والذي نحتفل بمئويته. وأود أن أشير هنا وأذكّر بما لا يعترف به أبناء وطني، بأن لبنان هذا العام منذ ذلك التاريخ قد بدأت فيه المحاصصة الطائفية وبدأت معه التدخلات الخارجية من كل الجهات والاتجاهات بإرادة من بعض أبنائه وخارج هذه الإرادة وظلها.

لا بد للتغيير، لا سيما إذا كان ما نسعى إليه نحن اللبنانيين باسم ثورتنا المجيدة وما يبتغيه الفلسطينيون من تأمين حقهم في تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم المستقلة على أرض وطنهم فلسطين، لا بد لهذا التغيير من تأمين الشروط الضرورية والواقعية والزمن الضروري لتحقيقه. وهي حقيقة لسنا نحن اللبنانيين والفلسطينيين والعرب الوحيدين المعنيين بتأمينها كي تحقق التغيير المنشود.


MISS 3