روسيا بعد بوتين

11 : 16

من سيحكم روسيا بعد فلاديمير بوتين؟ أعاد الرئيس الروسي حديثاً تأجيج التوقعات حول خططه المرتبطة بتحديد خَلَفه عبر اقتراح سلسلة من التعديلات الدستورية (سيصوّت عليها البرلمان في الأسبوع المقبل)، وعبر تعيين ميخائيل ميشوستين، تكنوقراط شبه مجهول ترأس دائرة الضرائب لسنوات، كرئيس جديد للحكومة. يتوقع بعض الخبراء أن يتنحى بوتين قبل انتهاء ولايته الرابعة والأخيرة في العام 2024. ويصرّ آخرون على أنه يريد ابتكار منصب جديد له كي يستطيع تجاوز الحدود التي تفرضها عليه الولاية الرئاسية فيحكم البلد إلى ما لانهاية. يتساءل الجميع الآن إذا كان ميشوستين الشخصية المؤثرة الخفية التي يوحي بها أم أنه خَلَف بوتين الذي ينتظر دوره بكل بساطة؟ لا أحد، على أقل تقدير، يعرف الحقيقة.


معن بوتين في تضليل الجميع حين زعم أنه جدّد طريقة إدارة مؤسسات الدولة الروسية من أعلى المراتب إلى أسفلها، أو ما يسمّيه "السلطة العمودية". هو يريد أن يكسب الإشادة نظراً إلى التناقض الحاد بين أسلوبه الإداري والفوضى والاضطرابات البيروقراطية التي سبقته. لكن سواء كانت السلطة العمودية هدفه الحقيقي أو لم تكن كذلك، لا يمكن التأكيد على أنه حقق هذا الهدف. في نهاية المطاف، يعني تمكين البيروقراطيين على جميع مستويات الدولة الروسية الأمر نفسه منذ قرون: إنها فرص وافرة لإنشاء أنظمة إقطاعية مستقلة وتجاهل الأوامر الصادرة من أعلى المراتب.

حتى أن بوتين يعترف أحياناً بحدود سلطته. لقد خصص جزءاً كبيراً من خطاب حالة الاتحاد في شهر كانون الثاني الماضي (حيث طرح خطته لإصلاح الدستور) للتذمر من فشل الوزارات الحكومية في إنفاق كمية كافية من الأموال التي منحها لها لتنفيذ مشاريع وطنية مزعومة (برامج كبرى للتعامل مع البنى التحتية والتعليم والابتكارات الرقمية ومجالات أخرى). نتيجةً لذلك، سُجّل فائض في الميزانية الفدرالية للعام 2019 بنسبة 1.9% من الناتج المحلي الإجمالي: إنها نسبة هائلة وقد أبطأت النمو الاقتصادي في السنة الماضية وأثارت غضب بوتين طبعاً. كان قد أبلغ البيروقراطيين بأنه يريد حوافز مالية كبرى، لكنهم لم يعطوه ما يريده بغض النظر عن السبب.

بشكل عام، لا يتذمر بوتين من التحديات التي يفرضها عليه "الحرس القديم" أو "السيلوفيكي" (الجهات الخفية المسؤولة عن استمرارية النظام السياسي والتركيبة الاجتماعية). سيكون هذا الموقف محرجاً له. لكن لا بد من التساؤل عن نطاق نفوذه الحقيقي وتأثيره على النظام الذي سيحاول خَلَفه إدارته.

لنأخذ مثلاً جريمة القتل المأسوية التي استهدفت زعيم المعارضة المعروف بوريس نيمتسوف على جسرٍ خارج الكرملـين. أُدينت عناصر من عصابات شيشانية بالجريمة، لكن لم يصدّق الكثيرون، في روسيا وخارجها، أنهم العقل المدبر وراء الاغتيال. ولم تعبّر أي وكالة روسية لإنفاذ القانون عن رغبتها في مطاردة المسؤولين الحقيقيين.

أمام هذا الوضع، تبرز أسئلة حول نطاق سيطرة بوتين على الدولة العميقة القائمة في روسيا بعد وقوع حدث غريب خلال التدخل الروسي في سوريا: هذه القصة لا تزال تُحيّر عدداً كبيراً من المحللين حتى الآن. في بداية العام 2018، أطلقت منظمة من المرتزقة الروس تُعرَف باسم "مجموعة فاغنر" هجوماً على الوحدات الأميركية والكردية في شرق سوريا.

لكنها تجاوزت بهذه العملية خط "فك الاشتباك" الذي اتفق عليه الضباط العسكريون الأميركيون والروس منعاً لأي تصادم بين الطرفين. وحين وجد القادة الأميركيون جنودهم تحت الهجوم، حذروا نظراءهم الروس من استعدادهم لتوجيه ضربة مضادة. لكن رغم ارتباط مجموعة فاغنر بعلاقات شخصية وثيقة مع الكرملين (يحمل قائدها لقب "رئيس بوتين"، وتملك المنظمة عقداً مع الحكومة الروسية مقابل نشاطاتها في سوريا)، لم يحرك القائد الأعلى للجيش الروسي ساكناً لتخفيف حدة المواجهة.

نتيجةً لذلك، نُفذت ضربات جوية أميركية في المرحلة اللاحقة. كان فشل ضباط الجيش الروسي في منع مقتل عدد من المرتزقة في مجموعة فاغنر كفيلاً بتوجيه رسالة واضحة: مهما كان الآخرون نافذين وعلاقاتهم قوية، يتعين عليهم ألا يقفوا في طريق الأميركيين.حين تتضح المصالح المتضاربة التي تحرك مختلف أجزاء الجيش والاستخبارات ووكالات إنفاذ القانون في روسيا، لا بد من إعادة تقييم عدد كبير من تحركات وخيارات الكرملين التي اعتُبرت قرارات بوتين الشخصية. في بعض الحالات، يكون الرئيس صاحـب القرار ويفـرض سيطرة تامـــة. وفي حالات أخرى، قد يختار وجهة عامة لكنه يترك مهمة التنفيذ على عاتق الآخرين. حتى أنه قد لا يعرف الكثير عن ممارسات الدولة العميقة أحياناً إلى أن يقرأ عنها في عناوين الأخبار.

هل نستطيع تحديد السيناريو الصحيح؟ هل نفترض مثلاً أن بوتين أصدر الأمر المرتبط بمحاولة اغتيال الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته في المملكة المتحدة في العام 2018؟ أو هل أنذرته وزارة الدفاع بأن صاروخ "كروز" الجديد الذي كانت تختبره في العقد الماضي انتهك معاهدة القوى النووية متوسطة المدى للعام 1987؟ على صعيد آخر، إلى أي حد كان بوتين يعرف بعملية قرصنة اللجنة الوطنية الديموقراطية الأميركية في العام 2016؟ تتعدد أنواع الأدلة التي تُسهّل الإجابة على هذه الأسئلة (تبرز أحياناً معلومات استخبارية بالغة السرية أيضاً). لكن يضطر المحللون عموماً للاكتفاء بطرح التخمينات بكل بساطة. بسبب ضخامة الوزارات النافذة ومصالحها المتباينة، يستطيع المسؤولون الروس على جميع المستويات أن ينفذوا أجنداتهم الخاصة. كذلك، أثبت بوتين أنه يقف دوماً وراء جماعته.

بعبارة أخرى، لا يقلق هؤلاء الأشخاص من مواجهة المشاكل لمجرد ألا يحصلوا على موافقته مسبقاً. سواء كانوا يستعملون سمّاً غريباً أو يسرقون الرسائل الإلكترونية أو يغتالون السياسيين خارج مكتبه، يعرف "الحرس القديم" أن بوتين يدعمه مهما حصل. هم يريدون معاملة مشابهة من الرئيس الذي سيخلفه، بغض النظر عن هويته.


الصراع المرتقب

هذا النظام الراسخ بكل قوة بعد عشرين سنة على بدء عهد بوتين قد يزيد اضطراب انتقال السلطة في المرحلة المقبلة. على عكس النسخة التركية أو المصرية أو الباكستانية من الدولة العميقة، تبدو النسخة الروسية أكثر انقساماً، وبالتالي لا يمكن أن يحكمها زعيم أو متحدث واحد، فكيف بالحري تعيين مسؤول تابع لها في الكرملين؟ أصبح الجنرال عبد الفتاح السيسي رئيس مصر في العام 2013 لأنه كان كبير ضباط الجيش بكل بساطة. لكن لا وجود لأي ضابط أعلى للجيش والاستخبارات ووكالات إنفاذ القانون في روسيا. في الوقت نفسه، يصعب تجاوز هذه التعددية. في عهد أي رئيس جديد (سيكون أضعف من بوتين على الأرجح)، ستتمكن مؤسسات مختلفة من الدفاع عن مجالها وحجم سيطرتها على سياسة البلد، ما يزيد أهمية نفوذها.

في أكثر الحــــالات تطرفاً، قد تتخذ المنافسة بين عناصر الدولة العميقة منحىً عنيفاً. لكن حتى لو بقي الصراع سلمياً، قد يكون الثمن الذي يدفعه رئيس روسيا المقبل بسبب دعمه للحرس القديم باهظاً. ربما ترغب الوزارات النافذة في توسيع استقلاليتها وزيادة ميزانياتها، حتى أنها قد تطالب بأن تكون لها كلمة في مسائل تتجاوز مجالاتها الاعتيادية. يعرف ميشوستين حتماً أن قرار زيادة رواتب شرطة مكافحة الشغب لن يكون آخر خدمة يسديها للوزارات النافذة.

في خضم هذه الأحداث كلها، يبرز تحذير واضح لرئيس روسيا المقبل. سيكون التعامل مع الدولة العميقة صعباً، لكن يعني الفشل في هذه المهمة تقبّل الحدود الصارمة المفروضة على السلطة الرئاسية. للتعامل مع هذه المعضلة، سيواجه خَلَف بوتين مجموعة من الخيارات الواسعة. يمكنه أن يوافق على طلبات الوزارات النافذة، في البداية على الأقل. أو يمكنه أن يجعل مختلف المؤسسات تواجه بعضها لاكتساب هامش أوسع من الاستقلالية. أو يستطيع أن يطبّق نسخة من الصفقة التي اقترحها بوتين على كبار الأوليغارشيين في روسيا بعد وقتٍ قصير على توليه الرئاسة في العام 2000: أسمح لكم بإدارة أعمالكم مقابل أن تسمحوا لي بإدارة البلد! يقضي خيار أخير بتحدي الدولة العميقة ومحاولة تفكيكها. ستكون هذه المقاربة الأكثر جرأة ومجازفة واضطراباً على الأرجح، ومع ذلك لا يمكن استبعادها بالكامل. صحيح أن الدول العميقة تدوم لوقتٍ طويل، لكنها ليست أبدية. فهي تقع من وقت لآخر ضحية الصراعات المحلية على السلطة وسرعان ما تخسر شرعيتها واستقلاليتها والهدف من وجودها (يكفي أن نسأل جنرالات أردوغان!).

من خلال إجراء تقييم عام وموضوعي يُركّز بشكلٍ أساسي على طبيعة المؤسسات القائمة لاستكشاف طريقة عمل النظام الروسي، قد نحصل على مؤشرات أوضح عن مسار المستقبل. حتى أن هذا التقييم قد يصبح جزءاً من السياسة التي تعتمدها الولايات المتحدة رداً على الأحداث المرتقبة. بعد المبالغة في التركيز على بوتين شخصياً بطريقة هوسية (كان للأسف العنصر الأكثر شعبية في نظامه)، سهّلنا عليه جميعاً مهمة أن يقنع شعبه بأن الحكومات والمجتمعات الغربية عدائية بشكلٍ مزمن تجاه روسيا. إذا كان المواطنون الروس العاديون مقتنعين بهذه الفكرة، سيتراجع ميلهم إلى التخلي عن الدولة العميقة مع أنها من أقل العناصر شعبية وأكثرها ضرراً في عهد بوتين. لن يتمكن الروس من إطلاق الجدل الداخلي اللازم لتغيير مسار بلدهم في نهاية المطاف إلا إذا أخذوا الاعتراضات الأميركية على السياسة الروسية على محمل الجد. لتحقيق هذا الهدف، يجب أن نبدأ بإجراء تقييم شفاف للمؤسسات الروسية، شرط أن يكون تقييماً قادراً على إقناع المواطنين الروس ومعالجة مخاوفهم الحقيقية.


MISS 3