عيسى مخلوف

النقد المُلازم للكتابة الإبداعيّة

29 نيسان 2023

02 : 00

الصفحة الأولى من مخطوطة "البحث عن الزمن المفقود"

يروي مارسيل بروست، في كتاب "ضدّ سانت بوف"، أنّ والدته كانت تقرأ له، أثناء رحلة القطار بين باريس ومدينة البندقيّة، صفحات من كتاب عنوانه "حجارة البندقيّة" للكاتب والناقد الفنّي البريطاني جون راسكِن الذي وصف بشكل آسِر المدينة العائمة فوق الماء، هندستها وجماليّاتها.

في كتاب "ضدّ سانت بوف" أيضاً، نكتشف أنّ رؤية بروست النقدية شكّلت المدخل الفكري لروايته "البحث عن الزمن المفقود"، وهي إحدى الروايات التي لا تنتهي، ولو ظلّ كاتبها حيّاً لاستمرّ في كتابتها، ما يدفعنا إلى القول إنّ ما لا يُعطى للكاتب أن يكتبه، يظلّ أكثر سخاءً ممّا كُتب.

في مقالاته النقديّة، يتحدّث بروست عن أشكال مختلفة للحياة، وعن واقع آخر غير هذا الواقع، وهو القائل: "لا نستطيع أن نرى الأشياء عبر الروح وعبر الحواسّ في آنٍ واحد". لكن، كأنّي به يفعل عكس ذلك، أحياناً، حين ينسج عبارات من هذا النوع: "غالباً ما كنتُ أرى من بعيد شالَ أُمّي مُرخىً على الدرابزين المَرمر مع كتاب يُثبته في مكانه ويساعده على مواجهة الريح".

لا تكتمل قراءة بروست الروائي من دون الإلتفات إلى نتاجه النقديّ، ما يجعل قراءة أدبه أكثر عمقاً. كتاب "البحث عن الزمن المفقود" يُخفي في طيّاته أزمنة ومناخات. ثمّة، في هذا الكتاب، ثقافة موسوعيّة تكشف عن انفتاحه على الفنون كافّةً، وعن تعمُّقه بها، كما يكشف عن مرجعيّة موسيقيّة وفنّيّة تؤلّف جزءاً مهمّاً من تحفته الأدبيّة، بل يمكن الحديث عن "متحف شخصي" قائم بذاته داخل هذه التحفة التي يذكر فيها بروست أكثر من مئة وثلاثين لوحة لفنّانين من أمثال جيوتّو، ليوناردو دافنشي، إلغريكو، فيلاسكيز، رامبرانت، فيرمير، وليام تورنر وكلود مونيه…

يحضر الفنّ بقوّة في عمل بروست. عازفُ كلماتٍ هو، ومُلوِّنُ لحظات. الكلمة، هنا، نهارٌ كامل لا تَغرب شمسه إلّا لتُشرق من جديد في دورة تصبح معها حركةُ الكتاب أشبه بحركة الكَون. ألا يقول بروست إنّ الفنّ يُخرجنا من محدوديّة الواقع وأفقه المغلق، ليُشرّع الآفاق ويضاعف العوالم، فلا نعود أسرى عالم واحد هو العالم الذي نعيش فيه؟ "وحده الفنّ يساعدنا على الخروج من أنفسنا ومعرفة ما يراه الفنّانون الأصليّون ويجسّدونه في أعمال لا ينطفئ بريقها أبداً".

هذا ما يعبّر عنه بروست عندما يتأمّل إحدى لوحات هؤلاء الفنّانين، ويرى فيها ألواناً لا توجد في الواقع، ويتعذّر على الكلمات استحضارها، لكنّها تتراءى لنا أحياناً في الأحلام، أو في الموسيقى: "نبصرها، مرّات، عندما ننام. نريد أن نحدّق فيها ونحدّد أشكالها، وإذا بنا نستيقظ ولا تعود رؤيتها ممكنة. كما لو أنّه من غير المسموح للوعي أن يراها (...) كما لو أنّ رؤيتها مُحَرَّمة على العقل. أمّا الكائنات الموجودة في مثل هذه اللوحات، فما هي إلّا أخلاط أحلام".

كم ينطبق هذا الكلام على تَعامُل بروست الأدبي مع الواقع. فهو يكتب عن العالم اليوميّ مثلما يقرأ عملاً فنّيّاً. يُصَعِّد الواقع، لغةً وأسلوباً وبنية فنّيّة، ويُطلقه في فضاءات رحبة مبتكراً من أجلها عبارة خاصّة تتوافق مع إيقاعه الداخلي. عبارة طويلة تَحدث أشياء كثيرة بين بدايتها ونهايتها. وهو صاحب العبارة الأطوَل في اللغة الفرنسيّة (856 كلمة). قد يتساءل القارئ بشيء من التخيُّل: ما حاجة كاتب يكتب عبارة طويلة إلى هذا الحدّ أن ينتقل إلى عبارة أخرى، هو القادر على معانقة زهاء مليون وخمسمئة ألف كلمة يتألّف منها كتابه؟

هذا "الشطح" الكتابيّ لا يعنيه من أين تنطلق العبارة وأين تتوقّف، بقدر ما يعنيه صدى الكلمات وصياغتها الخارجة عن المألوف، وخَلق حالة تستدعي الإبحار في سردٍ له خصائصه المميّزة. هكذا تتداخل في فعل الكتابة أفعال أُخرى. أمواجٌ من موسيقى متناغمة يصعب حصرها في بداية ونهاية.

صحيح أنّ بروست لم يضع أفكاراً في روايته، وهو أصلاً ضدّ الأفكار في صياغة الرواية، لكنّ أفكاره وتحليلاته تطالعنا في نتاجه النقدي. وهو، على هذا الصعيد، ناقد فذّ بقدر ما هو روائيّ فذّ. "البحث عن الزمن المفقود" صورة للأدب المثقَّف، الآتي من جهة المعرفة، وهل تستقيم الكتابة الإبداعيّة العابرة للزمن من دون ثقافة خلّاقة ومن دون وعي نقديّ عميق؟