جوزيف حبيب

بايدن وترامب و"عرش" المكتب البيضوي

29 نيسان 2023

02 : 00

بايدن وترامب (أ ف ب)

هل تستعيد الولايات المتحدة الأميركيّة أجواء انتخابات 2020 بين الرئيس الحالي جو بايدن وسلفه دونالد ترامب؟ هذا ما يُتوقّع حصوله بعد إعلان بايدن رسميّاً ترشّحه لولاية ثانية وتفوّق ترامب على خصومه الجمهوريين، المُعلنين والمحتملين، في استطلاعات الرأي حتّى اللحظة. لكن ماذا عن النتيجة الأكثر ترجيحاً لمثل مواجهة كهذه؟ هل ينتصر بايدن من جديد أم أن الظروف والعوامل المحيطة بترشّحه هذه المرّة تُلقي بثقلها على حملته الرئاسيّة، وبالتالي تُضعف وضعيّته الانتخابيّة وتُعزّز احتمالات انتصار ترامب عام 2024؟

لو اعترف ترامب بهزيمته عام 2020 من دون هرج ومرج جماهيري أدّى إلى اقتحام بعض أنصاره الكابيتول، لكانت طريق البيت الأبيض شبه معبّدة أمامه عام 2024. بيد أن الأمور أكثر تعقيداً مِمَّا يتصوّره أحد والصراع على "عرش" المكتب البيضوي ما زال في بداياته وهو مفتوح على الاحتمالات كافة. المنافسة بين بايدن وترامب ليست معركة شخصيّة فحسب، إنّما هي مواجهة بين تيّارَين سياسيَّين وفكرَين متناقضَين جذريّاً في قضايا اجتماعيّة وثقافيّة تمسّ المجتمع الأميركي وتقسمه عموديّاً إلى مجموعتَين تفصل بينهما هوّة سحيقة من الصعب ردمها بفعل التباين الجسيم في الخلفيّات التاريخيّة والمقاربات الأيديولوجيّة والأهداف المستقبليّة.

لبايدن (80 عاماً) وترامب (76 عاماً) نقاط ضعف وقوّة، بطبيعة الحال، في عصر تكنولوجي سريع تتسلّط خلاله الأضواء على سيّئات الخصم وسط مستنقع واسع من الأخبار الإعلاميّة والافتراضيّة، الموجّهة والمركّبة والملفّقة. فالرئيس الديموقراطي لا يبدو مؤهّلاً جسديّاً وعقليّاً لخوض "مغامرة رئاسيّة" جديدة لتولّي منصب يتطلّب مجهوداً كبيراً من صاحبه، وهذا ما أظهرته استطلاعات رأي عدّة تُفيد بأنّ غالبيّة الأميركيين، والديموقراطيين على وجه الخصوص، كانت معارضة لإعادة ترشّحه مرّة أخرى، فضلاً عن أن نسب التضخّم المرتفعة التي أنهكت قدرات الطبقة الوسطى واستنزفتها، لا تصبّ في مصلحة بايدن على الرغم من حديثه عن ضريبة تصاعديّة عادلة على الدخل يسعى إليها، والنمو المضطرد في الاقتصاد الأميركي، وخلق مئات آلاف فرص العمل الجديدة بعد انحسار تداعيات جائحة "كوفيد". بالتوازي، يُلوّح الجمهوريّون دائماً بالملفات القانونيّة العالقة لابن بايدن، هانتر، مدمن المخدّرات السابق الذي نسج شبكة علاقات نفعيّة متشعّبة مع شركات وجهات أجنبيّة عدّة، من بينها صينيّة، مستغلّاً منصب والده منذ أن كان نائباً للرئيس باراك أوباما.

كما تضرب قضيّة الهجرة غير الشرعيّة صورة الرئيس الديموقراطي وإدارته التي يُنظر إليها بأنّها فشلت في التعامل مع التدفّق الهائل للمهاجرين عبر الحدود الجنوبيّة مع المكسيك، وإغراق مناطق أميركيّة بـ"موجات ديموغرافيّة" عشوائيّة تُهدّد طبيعة التركيبة المجتمعيّة الفسيفسائيّة الدقيقة وتضغط على البنى التحتيّة وترفع نسب السرقة والجريمة، لا سيّما في بعض "المدن الديموقراطيّة" الغارقة في فوضى الجريمة المنظّمة وارتفاع معدّلات تعاطي المخدّرات، فيما ينمو غضب الأهالي من سياسة بعض المؤسّسات التربويّة التي تنتهج مقاربات ليبراليّة متطرّفة عبر توجيهها الميول الجنسيّة للتلامذة من دون علم ذويهم. وهذه "نقطة سوداء" تُسجّل لبايدن وحزبه الذي يتخطّى الجناح اليساري الراديكالي فيه خطوطاً ثقافيّة حمراء تُثير مخاوف غالبيّة الأميركيين.

ولا يُمكن إغفال ملف الانسحاب الكارثي من أفغانستان وما ترتّب وسيترتّب عنه من تداعيات جيوسياسيّة خطرة على مصالح الولايات المتحدة الأميركيّة وأمنها وأمن حلفائها، بينما يُسجّل لبايدن في المقابل وقوفه القوي مع كييف في وجه موسكو وتعزيز الجبهة الشرقيّة لحلف الناتو على طول الحدود مع "الدب الروسي"، إضافةً إلى استكماله سياسة ترامب القاضية بتشديد الخناق الجيوستراتيجي على "التنين الأصفر" الصيني وتوسيع الحضور العسكري الأميركي في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، وتعميق التعاون مع حلفاء واشنطن هنالك وتكثيف الدعم العسكري لتايوان.

أمّا ترامب، الذي يواجه مشكلات قانونيّة جمّة على جبهات متعدّدة، فلقد بات أكثر تحرّراً اليوم مِمَا كان عليه عام 2020 حين كان رئيساً والعالم بأسره غارق في قيود الجائحة الوبائيّة وعواقبها، التي ركّز الإعلام الليبرالي كلّ طاقاته ومؤثّراته "الدعائيّة" لتحميله أوزارها. يُحاول الرئيس الجمهوري السابق اليوم استنهاض شعبيّته في أوساط الطبقة الوسطى غير الراضية عن أداء إدارة بايدن، في حين يُظهر ترامب نفسه في موقع الرجل القوي والنشيط القادر على استعادة زمام المبادرة في ما يتعلّق بمكافحة الجريمة المنظّمة وضرب "شبكات" كارتيلات المخدّرات ووضع حدّ للهجرة غير الشرعيّة وايجاد حلول عمليّة للتضخّم وإعادة تفعيل عجلة أقوى اقتصاد في العالم.

على صعيد السياسة الخارجيّة، يؤكد ترامب أنّه الرئيس الذي يستطيع منع اندلاع حرب عالميّة ثالثة وإنهاء الحرب الروسيّة في أوكرانيا والحؤول دون قيام الصين بغزو تايوان أو خروج الأمور عن السيطرة في شبه الجزيرة الكوريّة والشرق الأوسط. علماً أن مقاربة هذه القضايا الدوليّة الشائكة والمعقّدة ليست بتلك البساطة. وما يُعطي ترامب صدقيّة أمام الرأي العام الأميركي، أنّه عمد سابقاً إلى تطبيق كافة وعوده الانتخابيّة بحذافيرها، من اعتماد مقاربة اجتماعيّة يمينيّة محافظة وخلق فرص عمل وتحسين الاقتصاد وإطلاق عمليّة بناء الجدار على الحدود الجنوبيّة مع المكسيك، مروراً بنقل السفارة الأميركيّة إلى القدس وتوقيع اتفاقات أبراهام والإنسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، وصولاً إلى عدم خوض حروب خارجيّة جديدة وتحفيز حلفاء أميركا على زيادة إنفاقهم العسكري واعتماد مقاربات سياسيّة وديبلوماسيّة وتجاريّة وتكنولوجيّة وعلميّة... متشدّدة مع بكين.

قد يكون الأميركيون سئِموا من بايدن وترامب على حدّ سواء، ويُفضّلون أن يشهدوا مواجهة بين مرشّحَين مختلفَين. لكنّ بايدن بات مرشّح الحزب الديموقراطي من دون أي منافس جدّي بديل، في وقت يطغى فيه اسم ترامب على ترشيحات الحزب الجمهوري، إلّا في حال حصول مفاجأة من العيار الثقيل، كدخول الضابط السابق في البحرية الأميركية وحاكم ولاية فلوريدا الحالي رون ديسانتيس، الذي يقوم حاليّاً بجولة خارجيّة لافتة على حلفاء بلاده التقليديين تشمل إسرائيل واليابان وكوريا الجنوبيّة وبريطانيا، على خطّ الترشيحات المحافظة ونيل بطاقة الترشيح الجمهوريّة على حساب ترامب. وهذا السيناريو بعيد المنال حتّى الآن، إذ ما زال ترامب يتفوّق على ديسانتيس بفارق مريح في استطلاعات الرأي.

يبقى احتمال مواجهة بايدن مرشّحاً رئاسيّاً يمينيّاً شاباً كديسانتيس، بحدّ ذاته، أمراً يُقلق الديموقراطيين بشدّة، لأنّ ميزان القوى قد يميل بسهولة لصالح حاكم فلوريدا الذي يستطيع استمالة الناخبين الوسطيين والمتردّدين وبعض الديموقراطيين الناقمين، أكثر من "رفيقه اللدود" ترامب. وبالعودة إلى المنافسة الأكثر احتماليّة بين بايدن وترامب، فإنّها تبقى غير محسومة النتيجة، إذ قد تدخل على خطّ المنافسة معطيات مستجدّة تتسبّب في تغيّر في موازين القوى الانتخابيّة. فاتّجاه التصويت في الولايات المتأرجحة سيؤدي دوراً حاسماً في المعركة، فضلاً عن أن نسبة المشاركة في الانتخابات لها مؤشّراتها وعواقبها، كما نسبة تصويت الأقليّات العرقيّة وتبدّل توجّهاتها السياسيّة ولو بمعدّلات ضئيلة. المعركة الرئاسيّة بدأت بزخم إعلامي و"تحشيد" شعبي وصخب سياسي. وبذلك، ينطلق السباق نحو المكتب البيضوي وسط انقسام مجتمعي عميق سيُترجم في صناديق الاقتراع، على أمل ألّا ينعكس على "الأرض" القابلة للاشتعال السريع!