بشارة شربل

قضاتنا و"حطب جهنم"

1 أيار 2023

02 : 00

يتفاقم القرف ممّا آل إليه القضاء في لبنان، مع أن أحداً لم يتوهم يوماً بأن كلّ قاض جلس على القوس تصرَّف بأنَفَة كالذي شكر رئيس بلاده على اختياره بالقول: "تأكدْ سيدي الرئيس أنني سأكون ناكراً للجميل".

كنت أفكر أثناء متابعة مسلسل "الحاكم وماريان" بما يشعر القاضي شربل أبو سمرا فيما يؤدي دور المترجم للقضاة الفرنسيين في جلسات الاستماع الى سرَّاق المال العام ومبيّضي الأموال، وبما يعتريه أثناء مشاهدته قضاة محترفين أجانب يواجهون "عصابة الأشرار" المحلية لأنه وزملاءه امتنعوا عن واجب إخضاع مثيلاتها للقانون منذ ثلاثة عقود، وأتاحوا لها ولغيرها الاستمرار في الإجرام بلا وجل من عدالة ولا خوف من حساب.

ويبدو أن العائد بالذاكرة الى سيرة القضاء منذ الاستقلال لا يجد ما يشرِّف العدالة سوى التماعات واستثناءات، فالنهج السائد قبل حروبنا الأهلية - الإقليمية والوصاية السورية والهيمنة الممانعة، هو التواطؤ مع أهل السلطة والسلطان. وليس لمن يريد الشواهد إلا العودة الى صحف الخمسينات والستينات ليتأكد من أن "الإفلات من العقاب" ليس اختراعاً دشَّنه حسَّان دياب ونظراؤه من رافضي المثول أمام القاضي البيطار، ولا الذين اقترفوا الجرائم في ظل "الجمهورية الثانية"، بل هو نهج قديم ساهم فيه القضاة الذين استسهلوا التمتع بالامتيازات وتوريث الأقارب، بدل أن يهجسوا بإحقاق الحق لا سيما أن المخاطر الأمنية في ذاك الزمن لم تكن ضاغطة لتعطيهم أسباباً تخفيفية.

بودِّي لو نركب بطائرة مع شربل أبو سمرا ورجا حاموش وغسان عويدات وعلي ابراهيم وغادة عون وغيرهم من الممسكين بمفاصل تنفيذية في القضاء ونعطيهم الأمان في مكان ما، ثم نخضعهم لجلسة تنويم مغناطيسي يبوحون خلالها بمكنونات الصدور لعلَّنا نتمكن من تفريق الإنجراف الإرادي مع رغبات المنظومة، عن العجز في مواجهة الضغوط... فنفهم حينذاك بعض آليات ممارستهم وظائفهم، وأسباب عدم وصول أي ملف إجرام سياسي الى نتيجة، وعدم وجود أي فاسد في السجن، وثقة المرتكبين العمياء على مدى سنوات بأن القضاء "شاهد ما شفش حاجة" وأن مفاتيحه موجودة لدى سماسرة كبار وصغار.

تعجبني القاضية أود بوريسي التي أفرجت عن مروان خيرالدين بكفالة في باريس وتتابع التحقيق مع من لهم علاقة بشركة "فوري" للنصب والاحتيال. فهي لا تعترف بـ"رأس لا يُطال". أدانت ساركوزي ووضعت سِوار تتبُّع في رجله. وتتولى اليوم - بدلاً من قضائنا المهيض الجناح - أخذ جزء من حق شعب لبنان. لكن، ألا يشعر قضاتنا بالخزي والعار وهم يتفرّجون على فريقها كالأيتام فيما يحتال بعضهم لعرقلة الإجراءات باجتهادات تافهة تراعي الشكليات؟

يشاد القضاء على الهيبة. وهي لا تأتي من النصوص، بل من قناعة الناس بأنّ عدل من يتولون الأحكام ونزاهتهم هما الناظم للحياة الكريمة ولكلّ اجتماع. قضاؤنا مسَحَ الأرض بالمبدأ من الأساس، وخذل الناس بمنع إحقاق الحق في جريمة العصر التي ارتكبت في 4 آب، فلا غرو إن تمسَّكنا بقضاة أجانب أحرار مثل بوريسي ورفيقها الصارم سيرج تورنير الملقب بـ "زورو" لعلَّ عملهما يكون فاتحة لملفات أخطر.

رغم سعادتنا بنجدة الخارج القضائية، فإنه لا بديل في النهاية عن القضاء المحلي. وإذ جاء في الحديث الشريف أن "القضاة ثلاثةٌ واحد في الجنة واثنان في النار"، فحبذا لو يبدِّد قضاتنا بالملموس خشيتنا من أن تكون أكثريتهم "لجهنم حطباً"، كي تبقى لنا نقطة ارتكاز في زمن تحلّل الدولة وتفكّك المؤسسات.


MISS 3