عيسى مخلوف

ضَوءٌ في بحر الظلمات

6 أيار 2023

02 : 00

تفصيل من لوحة لِرابندرانات

في بحر الظلمات، ثمّة قرّاء يلتفتون إلى الكتب التي تمنحهم شيئاً من الأمل والاطمئنان. يذهبون إليها كمن يذهب إلى نبع ماء ليروي عطشه. إنّ الأهميّة الأولى لهذه الكتب، بالنسبة إليهم، ليست في لغتها أو في بنيتها الفنية، بقدر ما هي في جرعة الأوكسيجين التي تمنحهم إيّاها، وفي الإحساس بأنّ إمكانات الخلاص ما زالت متوفّرة.

من هذه الكتب التي تتّسم ببساطة التعبير، وبنفحة روحانيّة، كتاب «النبي» لجبران خليل جبران الذي صدر بين الحربين العالميّتين، وجاء فيه: «إذا أشارت المحبّة إليكم فاتبعوها، وإن كانت مسالكها صعبة متحدّرة. وإذا ضمّتكم بجناحيها فأطيعوها، وإن جَرَحكم السيفُ المستور بين ريشها» (تعريب الأرشمندريت أنطونيوس بشير). في هذا السياق أيضاً، تطالعنا كتب الشاعر والكاتب والموسيقي الهندي رابندرانات طاغور الحائز جائزة نوبل للآداب (1913)، والذي كُرِّمَ في نيويورك في العام 2020، وكانت له كلمة في حفل التكريم صوَّر فيها أميركا بلداً جشعاً متهالكاً على المادّة، فردّ عليه جبران بقوله، وبحسب ما ورد في كتاب «أضواء جديدة على جبران» لتوفيق صايغ: «إنّ الروح قد تتجلّى في الآلة، وإنّ المادّي والروحي ليسا بالمتضاربَين، لكنّ الروح توجد في الحياة كلّها وفي الأشياء كافّةً». ولئن تضاربت الآراء بين جبران وطاغور في تحديد ماهيّة المادّة، فهما متقاربان يجمع بينهما الموقف من العدالة والحرّية والعِلم، ضدّ العبوديّة والرقّ والخرافة، كما تجمع بينهما النظرة إلى الحبّ والمحبّة. يقول طاغور: «آمن بالحبّ وإن كان مصدر ألم. لا تغلق مصاريع قلبك (...). تُفضّل زهرة اللوتس أن تتفتّح في الشمس وتموت، على أن تعيش في بُرعم شتاء أبديّ». ويضيف وفقَ النسق ذاته: «لا تبكي أبدًا فقدان الشمس لأنّ الدموع ستمنعك من رؤية النجوم».

ضمن هذه السلالة من الكتّاب، تندرج كتاباتٌ كثيرة، شرقاً وغرباً، ومن أزمنة مختلفة، منها نتاج الشاعر الصوفيّ جلال الدين الرومي الذي عاش في القرن الثالث عشر. يقول الرومي في كتاب «المثنوي»: «لو وهبتني قلماً لحطَّمتُ به السيوفَ والرماح». هذه العبارة تكشف عن أحد المواضيع الأساسية التي تمحورت حولها مؤلّفات الرومي، وشكّلت، على مرّ العصور، أمثولة في الحبّ والتسامح واحترام الآخر أيّاً كانت هويّته وأيّاً كان انتماؤه. إنّ رهان جلال الدين الرومي على العلم والمعرفة شديد الوضوح في مؤلّفاته ولطالما تحدّث عنه: «العلمُ خاتَمُ سليمان. العالم كلّه صورة والعِلم هو الروح».

ولا يغفل جلال الدين الرومي عن دور النقد وضرورته في تبيان الصحّ والخطأ، وانحيازه إلى النظرة النقديّة المتفحِّصة يطالعنا في الحكاية التي يرويها عن سلطان جاء يوماً لزيارة بلد يتألّف سكّانه من العميان. وحين أقبلَ هؤلاء ليتعرّفوا إلى السلطان وفيله، راح كلّ منهم يتحسّس جزءاً، أو أجزاء محدودة، من الفيل، ولم يتمكّن أحد منهم أن يُكوِّن تصوُّراً كاملاً عن هذا الحيوان الضخم. تنطوي هذه الحكاية على إشارة عميقة إلى العلاقة بين الجزء والكلّ، وإلى التَّوق إلى المعرفة الشاملة. هذه الدعوة المعرفيّة لا تمسّ الجانب الروحاني فقط في نتاج الرومي وإنما تطال كذلك نظرته إلى الحياة والعالم، وتطال مواقفه الكثيرة المتعدّدة في أحوال الدنيا.

يُبهِرُنا الرومي أيضاً في كلامه عن المساواة بين الرجل والمرأة، وهذه نقطة إضافيّة تجمعه بجبران وطاغور. في حديثه عن الناي وتأثير إيقاعاته التي «تمسّ الرجال والنساء معاً»، كما في مواضع أخرى من أشعاره، يؤكّد الرومي ما يوحّد المرأة والرجل بصفتهما «شريكَين في الحنين إلى أصل واحد»... لقد أولى جلال الدين الرومي اهتماماً كبيراً بالموسيقى كأحد التعابير الراقية عن الجمال والتناغم، وبلغت أنسنَتُه الكائنات والأشياء مستوى رفيعاً ينضح به هذا البيت الشعري الشهير: «استمع إلى صوت الناي كيف يقصّ حكايته. إنه يشكو آلام الفراق».

احتفال الحواسّ هذا هو احتفال بالحياة نفسها، نجده عند جلال الدين الرومي، كما عند جبران وطاغور. هذه الأصوات الثلاثة تمثّل جزءاً من التجارب الروحيّة التي تتوق إلى الذهاب أبعد من الهويّات والانتماءات المحدودة من أجل الوصول إلى الهويّة الإنسانيّة الجامعة.


MISS 3