أحمد الأيوبي

برّي والعشائر: هل تتجاوز الوساطة القضاء... إلى الحوار السياسي؟

10 أيار 2023

02 : 00

برّي محاطاً بوفد العشائر

شكّلَ هجوم «حزبِ الله» على العشائر العربية في خلدة وردُّها عليه وصمودها السياسي والميداني لاحقاً، حفرةَ الرِّمالِ المتحرِّكة التي كلّما حاول الخروج منها ازداد انزلاقاً وسقوطاً، فهو فشل في التصعيد والتهديد وعجز عن الاستجابة للمصالحة العادلة عندما كانت الفرصة متاحة لنزع هذا الفتيل، فوصل مع امتداد هذا الصراع إلى زمن سقوط هيبته على امتداد الأراضي اللبنانية وتحوّلت مظلمة العشائر إلى قضية وطنية جامعة تجلّت في لقاء خلدة، ليزداد حرج «الحزب» مع ضرورة الركون إلى سحب فتائل التفجير بعد انبلاج الاتفاق السعودي الإيراني.

من أين تأتي مكانة العشائر؟

تأتي مكانة وأهمية العشائر العربية من أنّها المكوِّن السنّي الأبرز خارج التشكيلات الحزبية وهي تستند إلى نواة صلبة في تماسكها الداخليّ وحفاظها على هويتها التاريخية وهي المنتشرة في القرى الحدودية (أبرزها يارين ومرواحين وعين عرب والوزاني) وفي صور وصيدا وبيروت وخلدة والبقاع والشمال وعكار عند الحدود الشمالية في وادي خالد بتعداد سكاني يناهز الخمسمائة ألف نسمة.

تعتبر العشائر القوة الناخبة السنّية الأكثر حضوراً على امتداد الأراضي اللبنانية، وتمكّنت من إيصال نائب عنها (محمد سليمان) ثم بدأ مسار التحوّل أكثر نحو العمل السياسي الفاعل.

بدأت العشائر صياغة شخصيتها السياسية المعنوية منذ العام 2016 بعد التسوية الرئاسية وقانون الانتخاب وبقية ما يعتبره قادة هذا المكوِّن «خطايا سياسية قاتلة»، ثم راكمت في بنائها حتى لقاء خلدة الوطني.

كان الحضور الأبرز للعشائر مع تصديها لهجمة «حزب الله» عليها في سلسلة من الصدامات بدأت باغتيال الفتى حسن غصن في آب 2020 حين نجح شبابها في صدّ هجمات «الحزب» في سابقة أعلت شأن العشائر سنّياً ووطنياً.

يجزم العالمون بمسار قضية العشائر أنّ لقاء خلدة الذي انعقد يوم الاثنين 24 نيسان 2023 شكّل المحطّة الأفعل في تحريك القضية بعد صدور الأحكام الجائرة عن المحكمة العسكرية، لأنّه فتح الباب أمام انتقالها من قضية عشائرية سنّية إلى احتضان وطني واسع أثار استياء بعض المرجعيات السنّية التي كانت قد تموضعت في حالة الفراغ واستطابتها، وأحرج «حزب الله» الذي بات بين حدّين: إمّا الركون إلى مصالحة عادلة تلزمه بالتراجع عن استكباره وضغوطه على القضاء، وإمّا أن يشاهد قضية العشائر وهي تعيد إحياء تحالف وطني واسع ضدّ سلاحه.

برّي يعترف: إدارة سياسية مستقلّة للعشائر

بهذه الخلفية جاء لقاء وفد من العشائر مع الرئيس نبيه برّي ليكرِّس إدارةً سياسية مستقلّة على المستوى السنّي بعدما كان ملفّ ما سُمّي «أحداث خلدة» خاضعاً لبازار مفتوح بين «تيار المستقبل» و»حزب الله» بينما نأت حركة «أمل» بنفسها عن هذا الصراع منذ بدايته، ما سمح لبرّي أن يكون في موضع الوساطة الإيجابية، خاصة أنّ العشائر لم تكن تريد الصدام، بل وقفت عند حقها ورفضت التنازل عنه، كما كان «تيار المستقبل» يضغط عليها لتكرار تجربة التنازلات المجانية.

جاء الانفتاح على الرئيس برّي انطلاقاً من حرص العشائر على التأكيد أنّ المشكلة ليست مع الشيعة بل مع «حزب الله» وهي وجدت في التواصل مع حركة «أمل» مدخلاً لوأد الفتنة التي يتحمّل «الحزب» مسؤولية ولادتها.

لم يكن حضور النائب محمد سليمان إلى عين التينة سوى فصل متدرِّج من التوجّه السياسي للعشائر لتظهير الاستقلالية السياسية ولإخماد الفتنة مع حفظ الحق والكرامة، وقد التقط الرئيس بري الإشارة من قيادة العشائر عبر وفدها فجاء موقفه محمَّلاً بإشارات التجاوب والإشادة بـ»المسؤولية الوطنية والقومية العالية» التي جسّدتها العشائر العربية في درء الفتنة التي حاول البعض إيقاظها في خلدة، وكان لافتاً استذكار برّي مواجهة العدو الإسرائيلي المشتركة مع العشائر في خلدة عام 1982 وصولاً إلى «اليوم مع أصحاب الإرادات الخيّرة وبالتنسيق مع مقام سماحة الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان سنكون في مواجهة الفتنة بين أبناء الوطن الواحد».

أما في ما يتعلّق بمسار قضية شباب خلدة وما نتج عن أحكام القضاء العسكري يبدو أنّ هناك خلافاً في الرؤية لهذا الملف، فالرئيس برّي يطرح تسوية ومصالحة قبل صدور أحكام التمييز بحق الشباب الموقوفين والمحكومين بالإعدام غيابياً، بمعنى تأخير الأحكام وتسريع المصالحة، بينما يسود الرأي عند العشائر بأنّ التسوية والمصالحة ينبغي أن تأتيا بعد صدور أحكام التمييز، فأساس المصالحة يتعلّق بوضع أحمد غصن شقيق حسن غصن وأوضاع باقي المحكومين... وبعدها تأتي المصالحة التي ترحِّب بها العشائر لأنّ العشائر ليست من دعاة الفتنة ولا من هواة الحرب.

ولكن هل يرعى بري جلسات حوار بين الحزب والعشائر؟

نتيجة ما سبق وتلى اللقاء بين العشائر والرئيس بري بدأت تتسرّب نقاشات حول تحضير الرئيس برّي جلسات حوار سياسية بين «حزب الله» والعشائر لا تزال في بداياتها، لكنّها تدلّ على مناخ إيجابيّ يتراكم مع الرئيس بري.

تقييم للمرحلة

في تقييم لما وصلت إليه قضية العشائر يمكن تقديم العرض الآتي:

ــ إنّ صمود العشائر في وجه «حزب الله» ورفضها التنازل عن حقّها وكرامتها كان المدخل لها إلى عمق الوجدان السنّي، ليس من باب استحسان الفتنة السنية الشيعية بل من باب صيانة الحقوق، وهذا يعني أنّ كيان العشائر أصبح اليوم في قلب المعادلة السنية تهدئةً أو مواجهة، وأصبح يحوز ثقة الرأي العام السنّي لثباته وحكمته، وهو ما افتقده مع قيادة تيار المستقبل ورؤساء الحكومات السابقين.

ــ إنّ ثبات العشائر بالوقوف عند حقّها وتماسك إدارتها السياسية أدّى إلى اعتراف الرئيس برّي بها فخاطبها متوجهاً من خلالها إلى الوجدان السنّي، وهذا يعني أنّ القطب السني الفاعل هو قطب العشائر.

ــ أعطى بري أهمية استثنائية لنجاح المصالحة مع العشائر من خلال إعلان استعداده والأمين العام لـ»حزب الله» حسن نصرالله للنزول إلى الشارع لإنجاح هذه المصالحة، وهنا نشير إلى أنّها المرة الأولى التي يفاوض فيها «الحزب» مكوِّناً يصطدم معه سياسياً وميدانياً، بينما كانت سياسته في السابق إخضاع الخصوم وإكراههم على التطبيع معه تحت مسميات مختلفة منها «ربط النزاع».

ــ كشف مقاومون في صفوف العشائر أنّ الإنجاز الذي تحقّق خلال المواجهة عام 1982 في خلدة مع الجيش الإسرائيلي كان أصحابه من شباب العشائر الذين أبلوا البلاء الحسن وشكّلوا درعاً حامياً للعاصمة إستمرّت مفاعيله باستمرارية منطق المقاومة ضدّ كلّ معتدٍ وظالم، وهنا نقطة إضافية تتعلّق بأسبقية العشائر في المقاومة من دون متاجرة واستعلاء.

ــ بدا تأثير النشاط السياسي للعشائر في تقديم النواب السنة للنائب محمد سليمان خلال لقائهم السفير القطري في بيروت، وكذلك في تسارع الخطى نحو تشكيل لجنة المتابعة الوطنية للقاء خلدة، والمكونة من مختلف الكتل النيابية التي شاركت في لقاء خلدة الأول.

وتجني العشائر العربية اليوم ثمار صمودها، فحاضنتها السنية والوطنية باتت أكبر من أن يتجاوزها أحد، خاصة بعد الاجتماع الوطني النيابي، كما أنّ معلومات دقيقة رشحت عن توجيهات تلقّتها قيادة «حزب الله» من وزير الخارجية الإيراني أمير عبد اللهيان في زيارته الأخيرة للبنان خلاصتها أنّ العشائر تعتبر من المكوِّنات التي تُعنى بها المملكة العربية السعودية بشكل مباشر، لذلك ينبغي إقفال ملف «أحداث خلدة» وإنهاء التوتر بشكل عام، وبناء عليه فإنّه لم يعد أمام الحزب سوى النزول عن الشجرة بعد أن يمدّ برّي سُلّم المصالحة العادلة إليها.


MISS 3