مجيد مطر

القاضية والأقانيم الثلاثة

13 أيار 2023

02 : 00

يقوم الفكر الحقوقي على أقانيم ثلاثة: الحرية، العدالة والمساواة. فلا يمكن لدولة أن تدّعي أنّها دولة قانون ومؤسسات بلا تكريس لهذه الأقانيم في دستورها.

الحرية هي باب كل تطور ابداعي وأخلاقي داخل المجتمع، ونقيض الحرية القمع. المساواة هي ركيزة المواطنة وفصل الخطاب في التساوي أمام القانون لا فرق بين حاكم أو محكوم. أما العدالة فهي فلسفة الوجود الإنساني، وبفقدانها تفقد الدول سبب وجودها، وتعمّ الفوضى، ويسقط الجميع في غياهب الاستبداد الفكري، والسياسي والقضائي.

فمنطق العدالة يتعايش مع فكرة أن يفلت ألفُ مجرمٍ من العقاب، ولا يُظلم بريء واحد، فيُحرم من حياته، أو يقضي سنوات شبابه وراء القضبان بأحكام جائرة لم تراع منطق العدالة.

والسلطة الملاصقة لتلك الأقانيم هي السلطة القضائية، التي وجِدت لحماية المجتمع من جور الحكام، فهي الخط الفاصل بين الحرية والفوضى. وعند الشطط في أداء السلطة التنفيذية أو التشريعية، هناك منظومة حقوقية تتدخل لإعادة نظام الأشياء إلى مكانه الطبيعي، فيتم الطعن بقراراتها لاحقاق الحق. وكل قانون أو مرسوم يخالف تلك الأقانيم مصيره البطلان والانعدام. هكذا تعمل الدول التي تحترم حقوق الانسان بكليتها من دون استنسابية أو تملص.

وأفضل منظومة قضائية، تلك التي أقرّت للقضاء أن يُحاسب نفسه، وأن يجري مبادئ العدالة عليها في ظل التزام تام وشديد لمبدأ فصل السطات، باعتبار أنّ مهمة القضاء تكريس العدالة فقط، ولا يتم ذلك بلا استقلالية مطلقة للقضاء. فاستقلال القاضي شرط لازم من شروط القيام بمهامه بنزاهة وحيادية وموضوعية.

وقد أقرّت القوانين الجزائية لا سيما القانون اللبناني مجموعة إجراءات تضمن تحقيق العدالة إلى أقصى الحدود، وهي تدخل جميعها في منظومة حقوق الانسان المنصوص عنها في المواثيق الدولية والإقليمية كما في دساتير الدول وقوانينها.

لذا، وبغية إرساء ضمانة تحقيق العدالة، حصّن القضاء نفسه بصفته رسالة أكثر منه وظيفة، بمجموعة من المبادئ تحوّلت إلى ركائز لا يمكنه أن يخرج عنها تحت طائلة بطلان قراراته من جهة، وتشويه سمعته من جهة أخرى.

فكل قاضٍ لا يلتزم بها يخضع للمساءلة والمحاسبة وفق أنظمة الرقابة القضائية المرعية الاجراء، وهذه كلها مرتبطة بالرقابة على الضمانات القانونية، كحق رد القاضي أو تنحيه عن القضية، فللخصوم الاطمئنان إلى قاضي الدعوى.

إنّ القانون نفسه يعتبر أن القاضي الذي يبدي رأياً مسبقاً في قضية ما، منحاز عن مبدأ الحيادية، فكيف يقبل اذاً بأن يخرق القاضي موجب التحفظ، وهذا ما يبدد فكرة العدالة برمتها.

وموجب التحفظ المقصود هنا هو تجنّب الكلام عن الدعوى أو التصرّف على نحو يخالف قرينة البراءة، لذا على القاضي أن يمارس مهامه بتأنٍ وحكمة. فالعجلة وحب الظهور لا يلتقيان مع حياد ونزاهة القاضي.

فتلك القاضية التي ما انفكت في كل مناسبة تُظهر الولاء لرئيس الجمهورية، معتبرة إياه مرجعيتها المطلقة، قد نسفت مبدأ فصل السلطات نسفاً شاملاً، فلا القضاء ولا تراتبيته تخصّانها أو تخضع لهما، وهو الذي امتنع عن توقيع مرسوم التشكيلات القضائية، فقط لإبقائها في مكانها، ما أثار الشكوك حولها وحول حياديتها كقاضية، خصوصاً وأنّ الرئيس الأسبق لم يمارس دوره كرئيس لكل اللبنانيين. فهو عند كل مراجعة له من قبل بعض القوى السياسية في شأن من شؤون الدولة، يحيل الشاكي أو السائل إلى صهره، و»نظرية تيريز» ماثلة للعيان، ليبدو وكأنّه لم يغادر رئاسة تياره السياسي.

أمّا تلك العراضة الشهيرة التي قامت بها أمام وسائل الاعلام لخلع باب شركة تمارس نشاطها من ضمن ما يتاح لها قانوناً، لهي في أبسط معانيها طعن من الخلف لقرينة البراءة، إذ إنّ ما أوحته القاضية من ذلك الاقتحام، يشير إلى نطق بالحكم في الشارع، متجاوزة مبدأ المدافعة، وإدانة من خارج قوس العدالة، فمثُلَتْ تلك الصورة في أذهان الناس، وبات حكم البراءة معرضاً للخلل، إذ إنّ التجريم أمام شاشات التلفزة، يصعب محوه بحكم يُتلى داخل القاعات. فمن يعوّض تشويه سمعة إنسان أمام عائلته قبل الآخرين؟

محاربة الفساد واجب أخلاقي، ويدخل في بناء المواطنة، إنما ممارستها على نحو منحاز وتوظيفي، والاستقواء بحجتها على قاعدة كبش فداء، تغطيةً لمكامن الفساد الحقيقي، يؤديان إلى نتائج عكسية. فالهدر الحاصل في ملفات السدود الفارغة والبواخر العائمة ينادي تلك القاضية التي جنَت على القضاء، وعلى نفسها كما جنت على نفسها براقش...

علانية المحاكمة تقابلها سرية التحقيق وموجب التحفظ.


MISS 3