شربل داغر

وسائل... التباعد الاجتماعي

15 أيار 2023

02 : 00

لم أتردّد، عند بدء انتشار الحاسوب، من التسجيل في دورة مهنية لتعلم لغته الإلكترونية: باتت شاشة الكتابة سوداء لحروف بيضاء، بخلاف ما كنت أكتب عليه، أي ورق أبيض لحروف سوداء.

لم أتوانَ، منذ ذلك التاريخ، عن تثمين فوائد هذه النقلة التي فاقت ربما نقلة الطباعة مع المخطوط...

عندما عدتُ إلى لبنان، في صيف 1994، اضطررتُ إلى شراء هاتف خلوي في صيغته التقنية الأولى لعدم وجود شبكة هاتفية ثابتة وصالحة.

إلا أنني لم أكن اتبين، حينها، المصيدة التي تقبع وراء هذه الثورة العلمية والتكنولوجية.

عنى الهاتف الخلوي (أو الجوال)، وفق دعاية ضاجة في تلك السنوات، حرية الفرد، وتلبية الهاتف الجديد لرغبات المستعمِل. حتى إنني كتبتُ عنه أنه بات امتداداً يكاد يكون طبيعياً لليد نفسها.

إلا أن المصيدة راحت تتكشف: كنا نتندّر في ما مضى على الرقابة على الخط الثابت، حتى إنه ظهرت آلة تكشف ما اذا كان الخط مراقباً...

أما اليوم فقد أصبحنا مراقبِين أينما كان، وكيفما كان.

حتى إن الواتس آب بات يتعهد لمستعمله بأن مكالماته ستكون "آمنة" تماماً، وبكاملها...

أما شاشة الهاتف الجوال فقد باتت أشنع من الشاشة الصغيرة أو الكبيرة، ما دامت تقتحم عينيك بعديد الدعايات.

إلا أن ما يستوقفني أكثر فهو الحديث عن "وسائل التواصل الاجتماعي"، التي أصبحت، في نظري، وسائل... التباعد الاجتماعي.

ألا تلاحظون معي كيف أن الرسائل البريدية... اختفت، فيها كنا نوليها أهمية عند كتابتها، فكيف في التشوق لاستلام رسالة!؟

ألا تلاحظون معي كيف أن رسائلنا باتت مقتضبة، سريعة، من دون نبض إنساني؟

المعترِض على ما أقول يتحدث عن حجم التواصل الذي زاد، وهو زاد بطبيعة الحال، لكن أي تواصل هذا!؟

سؤال آخر: ألم تتساقط وظائف الكتاب، والجريدة، والمجلة، وغيرها مع هذه الحمى التواصلية التي تعمم الشائعات أكثر من الأخبار، والأخبار المزيفة والفاسدة بدل عالم المعلومات الصحيح؟

وماذا يمكن القول في هذا التواصل الذي بات يستعيض عن اللقاءات والاجتماعات والمحاورات لصالح "التمظهر" الأنوي، النرسيسي في المقام الأول؟

ألم نصبح معنيين بترويج صورتنا وحسب، لا بما نكتب أو نعتقد أو نحس به، فلا يتأخر الكاتب أو الكاتبة عن نشر صورته الخاصة بين يوم وآخر؟

هذا لا يعني نشوء "ذوات متفردنة"، أي متمايزة، من جهة، ومتفاعلة مع غيرها، من جهة ثانية، وفي الوقت عينه.

هذا يشير الى نزوع استهلاكي فائق، على أن الكائن بات هو الماركة، والسلعة، فيما تتناقص قيمة الكائن في وجوده، في عقله وحسه، لصالح البطن والمظهر.

أأكون أحنّ إلى اعتيادات زمن قريب لكنه بات بعيداً؟ أأكون "أتخشب" أمام تجليات زمن جديد، مختلف؟

ألا يكون التقدم التكنولوجي الأكيد محل مراجعة على مستوى الفرد والمجتمع؟

ألا تزال شروط الحرية المرتجاة بعيدة أو مؤجلة أو صعبة؟

ألا يكون العالم الذي رسمَه جورج أوريل في روايته الشهيرة: "1984"، قد تخطيناه زمناً وواقعاً؟


MISS 3