قراءة قانونية لقرار مجلس شورى الدولة رقم 492 تاريخ 27/4/2023
( الوزير محمد الصفدي / الدولة اللبنانية ـ ديوان المحاسبة )
1 – على أثر ورود كتاب من رئيس هيئة التفتيش المركزي رقم 230/ ص / 1 تاريخ 28/4/2010 الى ديوان المحاسبة، بموضوع الاخطاء الحاصلة بملف تلزيم مشروع اقامة جسور في منطقة البحصاص – طرابلس، صدر عن الديوان القرار رقم 239/ ر.ق نهائي ومؤقت، قضى بتغريم بعض الموظفين سندا للمادة 60 من قانون تنظيم ديوان المحاسبة وبالطلب الى الوزير السابق محمد الصفدي شرح اسباب اتخاذه للقرارات موضوع التلزيم المذكور في مهلة ستين يوما من تبلغه.
2 ـ في 24/9/2020 صدر عن الديوان القرار النهائي رقم 318 / ر.ق وقضى، من بين ما قضى به، تغريم الوزير السابق محمد الصفدي غرامة وقدرها مليون وخمسماية الف ليرة لبنانية، سندا للمادة 60 من قانون تنظيم ديوان المحاسبة بالاضافة الى غرامة تساوي راتب ثلاثة اشهر تحتسب بناء على الراتب الذي كان يتقاضاه بتاريخ المخالفة سندا للمادة 61 وإحاطة مجلس النواب علما بالمخالفات المرتكبة من قبله سندا لاحكام المادة 64 من القانون المذكور.
3 ـ بتاريخ 15/11/2020 تقدم الوزير السابق محمد الصفدي لدى مجلس شورى الدولة بمراجعة ( تسجلت بالرقم 24379 / 2020 ثم بالرقم 58/2021 ـ مجلس قضايا ) طلب فيها نقض القرار النهائي رقم 318 ر.ق الصادر عن ديوان المحاسبة في 24/9/2020 وكف الملاحقة عنه.
4 ـ أدلى الوزير محمد الصفدي بعدم صلاحية ديوان المحاسبة لمحاكمة الوزير مستندا الى ان المادتين 70 و71 من الدستور نصتا عن محاكمة رئيس مجلس الوزراء والوزراء امام المجلس الاعلى لارتكابهم الخيانة العظمى واخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم. فلا يمكن تاليا اخضاع الوزير الى الاحكام التي ترعى اوضاع موظفي الادارات العامة والعاملين في المؤسسات العامة. وان استناد ديوان المحاسبة الى احكام المادتين الاولى والثانية من قانونه لاعتبار ان صلاحيته تشمل المسؤولين دون استثناء، يفتقر الى الاساس القانوني الصحيح بدليل ان القرار المطلوب نقضه اغفل ان الفقرة الاخيرة من المادة الاولى من المرسوم الاشتراعي رقم 82/83 ربطت ديوان المحاسبة اداريا برئيس مجلس الوزراء. وانه لا يمكن للديوان محاكمة رئيس مجلس الوزراء في حين انه يرتبط به اداريا.
وأدلى ايضا ان المادة 59 من قانون تنظيم الديوان معطوفة على المادتين 56 و133 من قانون المحاسبة العمومية لا تبيح شمول الوزير في ممارسته لمهامه لتلك المواد، اذ ان المشترع لو اراد ذلك لكان نص عنه صراحة. ثم ان الفقرة 2 من المادة 62 من القانون التي تفرّق بين الوزير والموظف التابع له مباشرة، خير دليل على ان رقابة الديوان تشمل فقط الموظفين دون الوزير.
وان استناد القرار المطلوب نقضه الى احكام قانون المحاسبة العمومية لا يؤدي حكما الى القول بصلاحية ديوان المحاسبة لمحاكمة الوزير بدليل ان المادة 112 من قانون المحاسبة العمومية، نصّت عن مسؤولية الوزير الشخصية على امواله الخاصة اذا تجاوز في عقد النفقة الاعتمادات المتوافرة او اذا اتخذ تدبيرا أدّى الى زيادة في النفقات. ولكنه لم يذكر جواز محاسبته امام ديوان المحاسبة. في حين ان الموظفين الذين تدخلوا في عقد النفقة وتصفيتها وصرفها، يلاحقون عن اخطائهم امام ديوان المحاسبة. ثم ان المادة 62 من قانون تنظيم ديوان المحاسبة تشير الى جواز محاكمة الوزير فقط في حال حلوله مكان الموظف الادنى منه رتبة. ولكن ليس امام ديوان المحاسبة بل فقط امام المجلس الاعلى المختص بموجب الدستور.
وان عدم تمثيل القضاة الاداريين والماليين في المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء ليس سببا لحفظ صلاحية ديوان المحاسبة لمحاكمة الوزير.
وان المادة 64 من قانون ديوان المحاسبة، نصّت عن اعلام مجلس النواب بالمخالفات وليس بالعقوبات التي جرى الحكم بها على الوزراء.
رد مجلس شورى الدولة كل هذه الاسباب وقضى بمسؤولية الوزير محمد الصفدي. يمكن جمع الاسباب المعتمدة من قبل المجلس المذكور في فئتين: الاسباب الناهضة من قانون تنظيم ديوان المحاسبة ( اولا ) والاسباب الناهضة من قانون المحاسبة العمومية ( ثانيا ) وانتهاءً عدم جواز حصر محاكمة الوزير امام المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء بحالتي الخيانة العظمى والاخلال بالواجبات (ثالثا).
اولا: مسؤولية الوزير استنادا الى قانون تنظيم ديوان المحاسبة:
يستفاد ممن المادتين الاولى والثانية من قانون تنظيم ديوان المحاسبة ان هذا الاخير هو المحكمة التي اناط بها المشترع صلاحية محاكمة المسؤولين عن مخالفة القوانين والانظمة المتعلقة باستعمال الاموال العمومية والاموال المودعة في الخزينة، في ادارات الدولة كافة.
كما نصّت المادة 59 من القانون عينه ان الرقابة تشمل الموظفين ويعتبر بحكم الموظفين في تطبيق احكام هذه الرقابة كل شخص من غير الموظفين عهد اليه القيام بادارة واستعمال الاموال العمومية المودعة في الخزينة والدفع لحساب الخزينة او بمسك حساباتها الخ، دون ان تكون له الصفة القانونية الخ.
هذه المادة اتت مطلقة لناحية شمول رقابة الديوان كل من يقوم بادارة او استعمال او قبض او دفع الاموال العمومية وكل من يتدخل في ادارتها او يساهم في الاعمال التحضيرية لها او بمراقبتها او التصديق عليها؛ اي كل من له علاقة بادارة او استعمال او صرف الاموال العمومية باي مرحلة من مراحل هذه العملية.
وان هذه المادة لم تحصر فقط المسؤولية بـ " الموظفين " بل اخضعت كل شخص يتدخل في اي مرحلة من مراحل التصرف بالاموال العمومية لرقابة ديوان المحاسبة دون ان تستثني احدا؛ ما ينبغي معه توسيع هذه المسؤولية الى حدها الاقصى لتشمل الرقابة ايضا اعمال الوزير امام ديوان المحاسبة.
ان السند القانوني لشمول الوزير في الرقابة من قبل ديوان المحاسبة هو المادة 112 من قانون تنظيمه التي تنص ان الوزير مسؤول شخصيا على امواله الخاصة عن كل نفقة يعقدها متجاوزا الاعتمادات المفتوحة لوزارته مع علمه بهذا التجاوز، كذلك عن كل تدبير يؤدي الى زيادة النفقات التي تصرف من الاعتمادات المذكورة.
ثانيا: مسؤولية الوزير استنادا الى قانون المحاسبة العمومية:
حدد قانون المحاسبة العمومية المرجع المختص لعقد النفقة واصول عقدها والمسؤولية المترتبة على عاقدها. فنصّت المادة 56 منه ان الوزير المختص هو الذي يعقد النفقة. ونصّت المادة 112 منه ايضا انه مسؤول شخصيا على امواله الخاصة وعن كل نفقة يعقدها، متجاوزا الاعتمادات المفتوحة لوزارته مع علمه بهذا التجاوز، كذلك عن كل تدبير يؤدي الى زيادة النفقات التي تصرف من الاعتمادات المذكورة.
ينهض من عطف كل هذه المواد بعضها الى بعض ان كل شخص قام أو تدخل في ادارة او استعمال او قبض او دفع اموال عمومية او قام بعمليات من شأنها ترتيب دين على الدولة خلافا للقانون او ارتكب اهمالا او تقصيرا او خطأ الحق ضررا بهذه الاموال، سيكون مسؤولا امام القضاء المختص، دون ان يتم استثناء الوزير من المساءلة امام ديوان المحاسبة.
ان المادتين 111 و112 من قانون المحاسبة العمومية، تنصان عن مسؤولية الوزير بشكل اساسي بصفته عاقد النفقة.
ثالثا: عدم جواز حصر محاكمة الوزير امام المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء:
أدلى الوزير محمد الصفدي بعدم جواز محاكمة الوزير امام ديوان المحاسبة اذ ان مسؤوليته لا تنعقد الا في حالتي الخيانة العظمى والاخلال بواجباته السياسية والدستورية، كما هي محددة في الدستور، الداخلة ضمن صلاحيته كوزير والمتصلة مباشرة بممارسة مهامه الوزارية، باستثناء الجرائم العادية التي هي من اختصاص المحاكم العادية. ولا يحاكم الوزير الا امام المجلس الاعلى. وان كل ما يعود لديوان المحاسبة من صلاحية هو اعلام مجلس النواب بالمخالفات المنسوبة اليه، والذي يعود له وحده حق الاتهام والمحاكمة.
هذا الادعاء ليس صحيحا لان للوزير صفتين: احداهما سياسية، والاخرى ادارية. الاولى توليه المشاركة في اتخاذ قرارات الحكومة السياسية، ويتحمل مع سائر الوزراء تبعتها. بينما الثانية تتمثل بادارته لمصالح الدولة في ما يعود لوزارته ويتحمل شخصيا تبعتها. والاعمال المشكو منها تدخل ضمن اعمال الوزير الادارية وتؤدي الى جواز ملاحقته امام ديوان المحاسبة. ولا وجود لاي قانون يمنع محاكمة رئيس مجلس الوزراء والوزراء امام القضاء المالي المختص. فيقتضي الفصل بين العقوبات المالية التي يعود لديوان المحاسبة فرضها والتي تقتصر على الغرامات المالية والعقوبات الاخرى من الزامات مالية وعقوبات جزائية ومسلكية يعود للجهات والمحاكم الاخرى المعنية فرضها.
وحدها المساءلة السياسية تستوجب قضائيا محاكمة الوزير امام المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء ( فضلا عن ان المساءلة السياسية التي ترتب مسؤوليته السياسية الشخصية والتي تؤدي الى طرح الثقة به بصورة افرادية امام المجلس النيابي، او من خلال مسؤولية الحكومة الجماعية ، حيث تطرح الثقة بها جماعيا امام المجلس النيابي).
فالوزير لا يحاكم امام المجلس الاعلى الا عن جرائمه السياسية المرتبطة ارتباطا وثيقا بصفته السياسية. بينما الجرائم المرتبطة بصفته الادارية، فيحاكم بموجبها امام المحاكم الجزائية العادية. وتبقى مخالفاته المالية من اختصاص ديوان المحاسبة فهل يقتنع أهل الرأي القائل بوجوب محاكمة الوزراء حصرا امام المجلس العدلي بخصوص جريمة تفجير المرفأ ؟ ام انهم سيبقون مصرين على " عنادهم " القانوني متمسكين بوجوب احالتهم امام المجلس الاعلى لمحاكمتهم بجرائم تدخل حصرا في اختصاص المجلس العدلي، المنشأ لهذه الغاية ؟ عسى قرار مجلس شورى الدولة يكون حافزا ليقظة العقول القانونية، فتستقيم الآراء وتسلك الامور مسلكها الصحيح ويعود القاضي طارق البيطار الى متابعة المهمة التي تم تعيينه محققا عدليا لاجلها وتكون " جسور البحصاص " معبرا آمناً الى مرفأ بيروت.