جوزيف حبيب

دورهام يُفجّر فضيحة "التدخّل الروسي" ويُعوّم ترامب

17 أيار 2023

02 : 00

تقرير دورهام يصبّ في مصلحة ترامب (أ ف ب)

قضيّة "التواطؤ" المفتعلة بين موسكو وحملة دونالد ترامب للانتخابات الرئاسيّة للعام 2016، كانت بمثابة كابوس سياسي وإعلامي حقيقي لإدارة الرئيس الجمهوري السابق منذ بداياتها، إذ لم تتوانَ شخصيّات أساسيّة في الحزب الديموقراطي وكبرى وسائل الإعلام الأميركيّة عن استخدامها بشكل ممنهج ويومي لضرب صورة ترامب وإدارته أمام الرأي العام الأميركي وتشويهها، عبر ربط أجندته وبرنامجه وسياساته وأهدافه بصلات خفيّة مزعومة بالكرملين والاستخبارات الروسيّة، وصلت إلى مستويات غير منطقيّة آنذاك وأصبحت توازي "نظريّات المؤامرة" التافهة.

ليس بالأمر العابر والبسيط على الإطلاق أن يعتبر تقرير المدّعي الأميركي الخاص جون دورهام، المُعيّن عام 2019 مِن قِبل وزير العدل السابق بيل بار في عهد ترامب، أنّ تحقيق مكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي آي) في شأن قضيّة التواطؤ بين روسيا وحملة ترامب، كان مبنيّاً على أدلّة واهية ومَعيباً بشكل خطر! ما يُفجّر فضيحة مدوّية من العيار الثقيل ويُبرّئ ترامب ويُعوّمه انتخابيّاً ويُثبت صحّة تصريحاته المتكرّرة خلال سنوات حكمه وما بعدها، بأنّ "التحقيق الروسي" كان "حملة شعواء" يُديرها خصومه الديموقراطيّون.

لكنّ الفظاعة تتجسّد في أن "أف بي آي"، أبرز وكالة فدراليّة مكلّفة حماية الدستور الأميركي والسهر على حسن تطبيق القوانين، اعتمد على "معلومات استخباراتيّة خام لم تُحلّل أو تؤكّد" لبدء تحقيقاته، ثمّ افتقر إلى الموضوعية في إدارة هذا الملف السياسي للغاية، بحسب استنتاجات دورهام التي قدّمها في تقريره المؤلّف من أكثر من 300 صفحة، هي حصيلة جهود 4 سنوات من التحقيقات المضنية. وذهب المدّعي الأميركي الخاص إلى حدّ اتهام الشرطة الفدراليّة الأميركيّة بـ"الكيل بمكيالَين" وبـ"الفشل" في الإلتزام بمهمّتها المتمثّلة "بالإخلاص الصارم للقانون".

وتكمن "عين المعضلة" باعتماد نظرة استنسابيّة أحياناً في مقاربة ملفات حسّاسة في واشنطن، إذ إنّ "أف بي آي" تسرّع بقراره التحقيق في هذه القضيّة بالذات رغم ضعف المعطيات والعناصر المتوفّرة بين أيادي محقّقيه، الأمر الذي يتناقض مع النهج المتّبع سابقاً في قضايا مماثلة كالتدخّل الأجنبي المحتمل في حملة المرشّحة الديموقراطية هيلاري كلينتون، وفق دورهام، الذي كان دقيقاً ومنهجيّاً في "تشريح جثّة" قضيّة "التدخّل الروسي" وفكفكة ألغازها واكتشاف خفاياها، وواضحاً وصريحاً للغاية في توصيف مكامن الخلل واقتراح الحلول.

وفي هذا الإطار، تحدّث دورهام عن "الموقف المتعجرف" لبعض المحقّقين الفدراليين الذين لم يضعوا في حساباتهم فرضيات بديلة ولم يتصرّفوا بموضوعيّة كما تقتضي أبسط المعايير القانونيّة والأخلاقيّة لوظيفتهم الدقيقة، وفضّلوا عوضاً عن ذلك الاعتماد على "المصادر المرتبطة بالخصوم السياسيين"، بينما سارع مكتب التحقيقات الفدرالي إلى التأكيد أنّ الحقائق التي وصفها دورهام قد ترتّبت عنها إجراءات تصحيحية ذات صلة. بيد أن الضرر الذي تسبّب فيه التحقيق لترامب على امتداد ولايته الرئاسيّة وصولاً إلى هزيمته عام 2020 في الانتخابات الرئاسيّة وفشله بالتالي في التجديد لولاية ثانية، قد حصل بالفعل.

تبقى الولايات المتحدة دولة مؤسّسات وقانون، ولو لم تكن كذلك لما استطاع دورهام القيام بمهامه على أكمل وجه وإصدار تقريره الطويل والمفصّل، وإقرار "أف بي آي" بأخطائه واتخاذه الإجراءات الكفيلة بعدم تكرارها في المستقبل. إلّا أن هذه القضيّة تُسلّط الضوء على "التمييز" في المعاملة في واشنطن بين الشخصيّات العامة المخضرمة التي تُعتبر جزءاً من "التركيبة السياسيّة" القائمة وبين "الوافدين الجُدد" إلى عالم السياسة المضطرب في العاصمة الأميركية، كترامب. وهنا يُطرح سؤال بديهي: كم من الشخصيّات السياسيّة ربّما ظُلمت سابقاً بـ"ملفات ملغومة" أو بـ"تسريبات قاتلة"؟

مفهوم "الدولة العميقة" في أميركا غالباً ما كان المحفّز و"الوقود" لإشعال "ناشطين هواة" نيران الفرضيات السطحيّة وغير الواقعيّة المُرتكزة على "نظريات المؤامرة"، في حين جاء تقرير دورهام ليُعيد إلى الواجهة الدور الذي تنتهجه بعض "القوى الفاعلة" داخل هذه "الدولة العميقة" في التعتيم على بعض القضايا بعينها، ودفنها أو وضعها في الدُرج للتلويح بها عند الحاجة في سبيل الضغط، وربّما استخدامها وقطاف ثمارها السياسيّة عندما تحين ساعتها.

في المقابل، تُفتح ملفات قد تكون مفبركة برمّتها أو أقلّه ليست لها دعائم صلبة، ومعطياتها متلاعب بها بما يتلاءم مع طبّاخيها، بهدف تشويه صورة خصم "مزعج" أمام الرأي العام لإزاحته عن المسرح السياسي في واشنطن، حيث من المفضّل التعامل مع "نخب" معروفة ومجرّبة عبر السنين من داخل التركيبة الشديدة التعقيد والمرونة في آن واحد، خصوصاً في ما يتعلّق بشخصيّة سيّد البيت الأبيض وطباعه.