د. نبيل خليفة

سجعان القزّي: المثلّث المارونويّ الرّيادة والسّيادة والقيادة!

18 أيار 2023

02 : 00

سجعان القزّي

بغياب سجعان القزّي نخسر قامة وطنيّة لطالما عبّرت عن الكبرياء الوطنية مجسّدة في المثلّث المارونويّ بقواعده الثلاث: الريادة والسيادة والقيادة. هذا الرجل الرجل لم يكن ولن يكون صورة عن إنسان مضى وعهد مضى وتاريخ مضى، بل كان، بكل ما فيه من طاقات وامكانيات وتعبيرات وأفكار ومواقف، إنسان الحاضر في كلماتنا وعلى أقلامنا، وانسان المستقبل في رؤيانا وخيالنا.

إنه الساكن أبداً في حنايا قلوبنا التي تشتاق إلى سماع كلماته البكر وأسلوبه الأدبي الراقي! إنّه رجل الرمزيّة اللبنانية لأنه جذري في مارونويّته (Maronitisme)ن فمنذ ألف وستماية سنة ظل الموارنة يعانون الاضطهاد حتى اعلان لبنان الكبير 1920، ومن خلاله حقّق الموارنة أعظم إنجاز في تاريخهم اذ انتقلوا من أرض الاضطهاد في سوريا إلى أرض الحرية في لبنان، ومن خطر فقدان الذاتيّة هناك إلى مناعة الحفاظ على الذاتيّة هنا. وباجتماع هذين الأمرين: الحرية والذاتيّة، تحوَّل لبنان إلى رمز ماروني يحمل طابع القداسة التاريخية.

أهميّة سجعان القزّي هي في كونه المدافع الفكري والاخلاقي عن هذا الرمز طوال حياته. وذلك في ثلاثة: اعتماد الريادة والدفاع عن السيادة واختيار القيادة.

لبنان رمز مارونيّ

كان سجعان القزّي يؤمن بأن لبنان هو رمز ماروني بالمعنى الروحي، وحقيقة تاريخية وجغرافية بالمعنى الجيو - سياسي، وأرض ميعاد لكل متعشّق للحرية من كل عرق ودين ومذهب بالمعنى الاجتماعي، وتحقيقاً لهذه القناعة وتأكيداً لها كان لا بد له، ولكل من يؤمن ايمانه هذا أن يحترم ويلتزم بالحفاظ على كرامة الطائفة المارونية على: تاريخها وايمانها وذاتيّتها وخصوصيّتها ودورها ومصيرها في معترك التاريخ، تاريخ لبنان وتاريخ الشرق الادنى. لقد كان للأسس التي قامت عليها الكنيسة المارونية دور حاسم في صياغة الكيانية اللبنانية:

- من حماية الطبيعة إلى حماية الفكر من حماية الجغرافيا إلى حماية التاريخ.

- من حماية الشرع والفتوى إلى حماية الدستور.

- من حماية الدين إلى حماية العقلانية الدستورية.

- من حماية حقوق الأفراد والأقليات إلى حماية حقوق الانسان كل انسان.

في جبل لبنان الذي «عُمِّد جبل الحرية» وليس جبل الموارنة فقط! على عكس ما كانت عليه جبال الآخرين ومن أمثلتها: جبال النصيرية وجبل الدروز وجبل عامل وجبل صهيون… وهذه مسألة أساسية كان يشدّد عليها المغفور له الآباتي شربل القسيس. ذلك أن المارونويّة هي دعوة لكل الناس، وبمعزل عن انتماءاتهم الاقلّوية للعيش معاً بسلام في بهاء الحرية! وهذه الروحية هي التعبير الأرقى عن اسلوب الريادة فهي اختراق لكل ما هو سائد آنذاك. إنها الاطلالة الفكرية على عهد جديد يجمع ما كان يسميه المفكر الفرنسي اندريه مالرو: اجتماع الثقافة والشجاعة في آن كقاعدة لبناء الدول في القرن الحادي والعشرين. ومن الثابت أن سجعان القزّي كان أحد أبرز الذين قاموا بهذا الدور في التجربة اللبنانية.

الريادة الفكرية

على أن الريادة الفكرية بحاجة إلى حيّز، إلى مجال تتحقق وتنمو فيه. وهنا يبرز دور الدولة كمجال جغرافي وأرض الوطن التي توحّد اللبنانيين هوية ومصيراً. أجل إنّ الأرض هي القاعدة الأساس لوجودنا التاريخي، بها ترتبط هويتنا واليها يعود انتماؤنا. ان لها بعداً روحياً ميتافيزيقياً من تكويننا الثقافي. إنّ صورتها مركوزة في البال والخيال كما هي في الواقع تماماً. إنّها الأرض التي تبلغ مساحتها 10452 كيلومتراً مربعاً. لا تنقص سنتيمتراً واحداً. وتحوي كامل التراب الوطني بما فيه مزارع شبعا. إنه الوطن بل هو في ذهن سجعان القزّي مختصر لمعنى الوجود. وهذه المعادلة بين الذات والوطن تفرض ان يكون الانسان حراً والوطن حراً.

من هنا التمسّك الكامل والحاسم بمبدأ السيادة. السيادة على كل شبر من أرض الوطن ولقد كان هذا المبدأ جزءاً من سيمفونية سجعان القزّي الوطنية في كل ظرف ومجال. بما أنّ سيادة الدولة تتمثل في سلطانها على الإقليم الجغرافي الذي تختص به بما يوجد فيه من أشخاص وأموال وثروات، فإن التعبير عن هذه السيادة يكون باتجاهين:

الأول: عمودي تمارس فيه الدولة حصرياً سلطانها بقوة القانون والسلاح على جميع المتواجدين داخل إقليمها الجغرافي دون ان يشاركها احد في ممارسة هذا السلطان، فرداً كان أو جماعة.

الثاني: أفقي تمارس فيه الدولة حصرياً استقلالها تجاه كافة الدول والمؤسسات الدولية طبقاً لمصالحها.

في ضوء هذين الاتجاهين تفهم ثورة سجعان القزّي على منتهكي سيادة الدولة اللبنانية من قوى مسلحة في الداخل وقوى دولية في الخارج. لقد كان الصوت المعبر بجرأة وواقعية واستشراف عما يعانيه لبنان من مصاعب ومصائب وفي الوقت ذاته عما يختزنه شعبه من طاقات المواجهة والنضال. لذا كان أدب سجعان القزّي لوحة متكاملة لأدب المقاومة الوطنية اللبنانية، لوحة محفورة على صدور الشرفاء وفي ضمير المقاومين المناضلين.

القيادة

يبقى الركن الثالث في مثلث المارونويّة وهو القيادة. لقد كان سجعان القزّي لبنة أساسية في بناء القيادة المارونويّة لبشير الجميل، هذا الانسان الظاهرة الاستثنائية في تاريخ الموارنة والمسيحيين واللبنانيين والشرق الأوسط، فهو رجل القيادة التاريخية للمشروع المارونويّ كما وصفه كمال الصليبي وهو مشروع دولة لبنان الكبير. إنّه التعبير والتجسيد للخط التاريخي للإيديولوجية المارونية وضرورة التمسّك به، الدفاع عنه وتكريس انتصاره بانتصار لبنان الدولة. وهو ثانياً رجل الكيانية النهائية للبنان عبر الرقم 10452 كلم². وهو ثالثاً رجل الصيغة أي الحياة المشتركة المسيحية - الإسلامية، باعتباره أرض ميعاد الأقليات وجبل الحريّة كما ناضل من أجله كثيرون وفي مقدّمهم الشيخ بيار الجميل. وهو رابعاً رجل الدولة الذي يولي الاهتمام للدستور والقوانين والمواثيق الوطنية، وهو خامساً الرجل الرجل الذي قالت عنه صحيفة نيويورك تايمز في 25/8/1982 «إن بشير الجميل رجل مبادئ، صريح وحازم ولا يساوم على مبادئه وقناعاته».

هذا يعني أنّه رجل موقف ورجل قرار يعمل من ضمن استراتيجية مرسومة وأهداف واضحة. فالصراحة عنده هي احترام لنفسه للحقيقة وللآخرين. وأما الحزم فاذا قال فعل، واذا قرر نفَّذ. وهو في كل ذلك الرجل الرجل الذي له رأي يستشير احتراماً لرأي المستشارين، وليس الأتباع ولا الأزلام وفي رأس هؤلاء المستشارين كان سجعان القزّي الذي هو بمثابة يده اليمنى التي تعمل على الوصل وليس الفصل بين القوى المتواجدة على الساحة (الكتائب والقوات وكافة القوى...)، لقد كان بحاجة إلى قوة تعمل للتفاهم وليس التناقض…

وهو ما جعل سجعان القزّي في صف القيادة وليس في صف الزعامات والحركات السياسية. باختصار ووضوح قدّم سجعان قزّي تحليلاً علمياً لشخصية بشير الجميل والتي رأى أنه حقق فيها معادلة استثنائية نادراً ما تتحقق لدى القادة السياسيين والعسكريين في آن: معادلة بين البعد الإيديولوجي بترجمته العسكرية والبعد المدني بترجمته الديمقراطية الليبرالية، وهو ما أكسبه المودة والاحترام كقائد عسكري - سياسي في آن وجعله محبوباً محترماً من اللبنانيين قبل أن يستلم السلطة. وعندما قرر ان يخلّص لبنان قرروا التخلّص منه! فحق فينا قول فيليب حبيب: «إننا بلد الفرص الضائعة!!»

من قيادة بشير الجميل إلى قيادة البطريرك الماروني في بكركي، عمل سجعان القزّي كعادته في إيجاد الصيغة المناسبة والصورة المناسبة لخلاص لبنان الدولة - الكيان عبر صيغة الحياد كحل أفضل وربما الوحيد للقضية اللبنانية. وكعادته كان سجعان القزّي المفكّر والمنظّر والمبرر لهذا الخيار، وأعلمني هاتفياً رحمه الله بأنه نصح البطريرك بالعودة إلى مؤلفات نبيل خليفة حول حياد لبنان وهي تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، فشكرته على شهادته بي. وكان ما كان في حياد لبنان.

في مراجعتي لتجربة سجعان القزّي أتخيّل كيف أن تجربتي الحياتيّة والحزبيّة والفكريّة والقياديّة، مشابهة لها. وأتحسس مدى الألم الذي أشعر به بين ما كنت أعمل له مع البشير ومع البطريرك… وما آلت اليه الأمور حالياً ومع طعم المرارة الذي اشعر بها من جرّاء البؤس والانحطاط، لكن ما يخلد سجعان القزّي هو الولوج إلى قلب الحقيقة، حقيقة شعبنا الذي يجمع بين قديسيه وشياطينه في آن. وفوق ذلك وقبل ذلك فإنّ شعبنا شعب بشير الجميل وسجعان القزّي هو الذي قدم للبشرية أعظم وأسمى شيء ألا وهو العظمة الحضارية، منذ الأحرف الهجائية الأولى في بيبلوس والتي وصفها مؤرخو الحضارات بأنها «أهم إنجاز حضاري في تاريخ البشرية»، فإذا أضفنا إليها دور شارل مالك في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أمكن القول، بل التأكيد، بأن لبنان الكنز والرمز هو التجسيد لأربع قيَم: الثقافة والازدهار والسلام والكرامة البشرية... وتلك هي القيَم التي عمل سجعان القزّي دوماً من أجلها!

رحمه الله... لعائلته وأهله العزاء، وله السماء.