ثمّة من يعتبر أن إنتصار «حلف شمال الأطلسي» على غريمه الراحل «حلف وارسو» إبّان الحرب الباردة كان نتيجة طبيعيّة لانهيار الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينات من القرن الماضي، وسقوط جدار برلين وتداعي الكتلة الشرقيّة والجمهوريات التي تدور في فلكها.
وثمّة من اعتبر أن هذا الحلف أصبح بدون جدوى على ضوء اندحار «التهديد» الأساسي الذي كان خلف تأسيسه والذي تمثله موسكو. بطبيعة الحال، الغزو الروسي لأوكرانيا واستمرار الحرب العسكريّة الضارية منذ عام ونيف عزّز وجهة النظر المناهضة لهذا الطرح والتي أكدت أن روسيا، بمعزل عن اسمها ودورها وحجمها تواصل سياساتها الهجوميّة.
لم يفكر قادة الحلف يوماً بحله، بل على العكس ذهبوا منذ نحو عامين لتفعيل أنشطته وتطوير قدراته العسكريّة والتكنولوجيّة والدفاعيّة ووضعوا رؤية استراتيجيّة جديدة (رؤية 2030) التي تضمّنت محاكاة أبرز التحديات التي تواجهه وسبل تعزيز وتطوير القدرات والامكانيات بشكل كبير.
باستثناء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي لطالما راودته فكرة إنشاء جيش أوروبي وهي الفكرة التي لم تلقَ إهتماماً كافياً من الأقطاب الأوروبّية خصوصاً ألمانيا، أجمع القادة الغربيون على تقوية حلف «الناتو» وتحضيره لمجابهة المزيد من التحديات الأمنيّة والعسكريّة، وإذ بحرب أوكرانيا تنفجر لتكرّس هذا المسار وتدفع الدول لمضاعفة مساهماتها لتقوية الحلف.
ولا تزال الأقانيم الثلاثة القائمة على: الدفاع المشترك، إدارة الأزمات والأمن التعاوني هي التي تحرّك كل الرؤى الاستراتيجيّة للحلف وتطلعاته المستقبليّة وقد تُرجمت في ورقة رؤية 2030 التي تبنّت ووسعت مقررات لشبونة (2010)، لا سيّما في المضمار الدفاعي. ويعتبر الحلف أن عليه البقاء متأهباً ومستعداً وموحداً في الحقبة الجديدة التي ارتفعت فيها مستويات التنافس الدولي بشكل غير مسبوق، وهي ما تحتّم مضاعفة جهود التنسيق السياسي والتشاور بين الدول الأعضاء، خصوصاً أن الحلف هو المنصة الوحيدة التي تجمع أوروبا وأميركا الشماليّة بصورة شبه يوميّة، وهما القارتان التي تواجهان تحديات مماثلة، كما يعتبرون، من الأخصام ذاتهم وفي مقدمهم الصين وروسيا وبعض دول العالم النامي.
ويبقى الملف الدفاعي والردعي يتصدّر أولويات الحلف ونظرته الاستراتيجيّة، وهي تقوم على مزيج من الأسلحة النوويّة والتقليديّة والصاروخيّة. ويأتي الحفاظ عليها وتطويرها بصورة مستمرة في طليعة الاهتمامات. فالمنطلقات الأساسيّة للحلف هي منطلقات دفاعيّة بالدرجة الأولى، تليها الملفات الأخرى في السياسة والبيئة والتغيّر المناخي وسوى ذلك من القضايا التي دخلت بصورة تدريجيّة إلى قائمة اهتمامات الحلف.
وعلى عكس ما يظن البعض، يمتلك الحلف نظرة استراتيجيّة شاملة إلى مسارات العلاقات الدوليّة ومآلاتها، ومن ضمن ذلك تأتي الخطة للتواصل والتنسيق مع الدول القريبة من نهجه في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينيّة، ما يجعل الحلبة الدوليّة موقعاً للتنافس الدائم والسعي الحثيث لبسط النفوذ.
أما الحفاظ على التفوّق التكنولوجي، فهو يتقاطع مع تلك الشبكة الكبرى من المصالح التي تقودها الشركات العابرة للقارات والتي تتولى التصنيع العسكري الحديث وتصديره، خصوصاً إلى الدول الثريّة التي تتغذى مخاوفها بصورة مستمرة بسبب سياسات لا يتوانى الغرب، والحلف أحد أبرز أذرعته التنفيذيّة، عن تأجيجها.
طبعاً، هذا لا يعني أن الدول الكبرى الأخرى لا تولي التصنيع العسكري أهميّة موازية، بل الجميع يكاد يتواطأ في هذا الملف لتحقيق المصالح المتبادلة وتسجيل الأرباح التجاريّة الخياليّة في بعض الأحيان. ولكن قلّما إلتفت أحد في الغرب أو الشرق، للأكلاف الباهظة لهذه الصناعات الضخمة على مستقبل الشعوب الفقيرة والضعيفة التي غالباً ما تدفع الأثمان السياسيّة وتتحول بلدانها إلى حلبات صراع دولي لتجريب الأسلحة وتصريفها!
أمام حلف «الناتو» تحديات عديدة، ولكنها ليست وجوديّة، لأن بقاءه هو الحاجة الوجوديّة لبعض الدول!