نوال نصر

جميل السيّد "مهضوم" وشاهيه برصوميان بريء

المحامي أكرم عازوري: لا حقيقة مطلقة في المحاكمات... وسأفشي سرّاً

20 أيار 2023

02 : 00

هكذا تحصل المحاكمات

في شخصيته، دهاء كبير وكلام قليل وبعض المرح الممزوج بتفاؤل مأمول. غريبٌ هو هذا المحامي الذي اقتحم دعاوى كبيرة، بحجم أوطان، وخرج منها كاسباً ناجحاً ظافراً. فهل السرّ فيه أم في ضعف الإدعاء أم في حنكة وحكمة يمتلكهما في إدارة الملفات؟ يختار كلماته بتأنٍ. يقول ما يريد ويتوقف عندما يريد. وبين الفاصلة والنقطة يتمهل كي لا يُخطئ وهو يُحدد، مع الذكريات، أسرار المهنة. قيل عنه: هذا محامي الشيطان... المحامي اللاشعبي... المحنك... فهل هو راضٍ عن مسار ومسيرة حين يضع كفه على رأسه ويفكر في البارحة وما قبله وفي اليوم وفي مئات المطالعات وآلاف الدعاوى وعشرات الملفات التي فيها سياسة بقدر ما فيها قانون؟ حوارٌ مع المحامي العنيد أكرم عازوري. 



هو ابن عازور. وعازور جنة جزينية. إنها جارة بلدة قيتولي الرائعة «كتير كتير كتير» على ما كرر مراراً وتكراراً، وقبل أن يأخذنا بذاكرته الى قرية جزينية صغيرة اسمها «القبع»، هي كناية عن عشرين مسكناً وكنيسة «وكأنها من تصميم والت ديزني». عاشقٌ هو لجزين التي لم يعد يقصدها صيفاً من بداية الأزمة الأخيرة في لبنان لكنه لا يغفو ليلة من دون أن يسرح في ذكرياتها وذاكرتها وصورها.


يوم بدأت الحرب كان في العشرين من عمره، يتدرج في مكتب الأستاذ جوزف مغيزل، معلّمه الأول. وأول مكتب فتحه كان في منطقة الحازمية لكن بعد الطائف نزل الى بدارو حيث مكتبه اليوم منذ أكثر من عشرين عاماً.



لا حقيقة مطلقة بل حقيقة قضائية (تصوير رمزي الحاج)


بين الفيزياء والمحاماة

نجلس في مكتبه في قلب بيروت، في شارع بدارو، حيث نكاد نشعر وكأننا في عازور. الشجر المحيط كثير والشتول على مدّ العين. إنها الرئة التي يستمد منها نبضاً من نوع آخر في ساعات عشر يمضيها يومياً في مكتبه. هو يستيقظ عند السادسة صباحاً ويسرح في بدارو على دراجته الهوائية ويعود الى مكتبه عند التاسعة ليبدأ نهاراً قانونياً طويلاً طويلاً في مهنة قد تكون إختارته قبل أن يختارها ويقول «أردت دراسة الفيزياء لكن المستقبل المهني لهذا الإختصاص، في سبعينات القرن الماضي، لم يكن براقاً، لذا انتقلت من الفيزياء الى المحاماة». وكان ما كان. علماً أن عازوري لم يتحدّر من بيت محام. فوالده كان يعمل في مجال التأمين».


في اختصاص الفيزياء خطوط طول وعرض وخفايا كثيرة، مثله مثل المحاماة، هناك قواسم مشتركة عديدة. فهل مارس الفيزياء في المحاماة؟ يجيب «القواسم المشتركة موجودة في كل المهن والنشاطات، تبدأ من المنطق وتسلسل الأفكار وتحديد الروابط السببية بين الفعل والنتيجة والإبتعاد عن التشويه الإنفعالي أو العقائدي أو العاطفي. فكل فعل يوصل الى نتيجة معينة أكان في الفيزياء أو الطهي أو الميكانيك أو الأدب أو المحاماة. بقدر ما نلتزم بالمنطق السليم ونبتعد عن الإنفعالات والأهواء بقدر ما نصل الى النتيجة المتوخاة».


ومن دون سؤال، يسهب في الكلام عن المحاماة: «كي نتجاوز الحدّ الموجود نحتاج الى معلومات واسعة عن شتى المجالات والعودة الى مختلف الأسبقيات التي مارسها في لحظة معينة، وهي لحظة لم تولد بنت ساعتها. ثمة تطور في مختلف الأمور عمره مئات وآلاف السنين يوصلنا الى نتيجة معينة. فإذا لم ندخل في الخلفيات والأسباب التي أدت الى قاعدة معينة لن نستطيع الإلمام بكل ما يحوطها من تفاصيل. ولا يكون الإنسان، مطلق إنسان، خلّاقاً إلا إذا ألمّ بالخلفيات التاريخية التي اوصلت الى التقنية الحالية المطبقة. فليس هناك قاعدة ولدت من العدم. الدنيا لم تبدأ في 2023 بل قبل أكثر من ألفي عام. ولنعط مثلاً، نتعلم مبدأ فصل السلطات في القانون الدستوري يعني القوانين التشريعية والتنفيذية والقضائية المستقلة. هذا المبدأ تعكسه نصوص عديدة، يتعلمها الشباب في الجامعات. هناك من ينجح بنيله 10 على 20 وهناك من ينجح بنيله 18 على 20. وإذا لم نعرف لماذا حصل مبدأ فصل السلطات سنكون مقيدين بالنص الذي أعده المشترع من دون معرفة خلفياته التي تمكننا من تطويره أو تعديله. إذا لم نعرف لماذا بدأ مونتسكيو بفصل السلطات وتبنتها لاحقا الثورة الفرنسية وقبلها بقليل ثورة الإستقلال الأميركية ولاحقا بريطانيا.



مع عائلته


لا يمكننا أن نفهم الآن لماذا تشتكي الأطراف وتقول: نريد قضاء مستقلّاً. إذا لم نفهم كل ذلك لن نفهم أسبابها ولن نقتنع بوجوب التمسك بها ولن نقدر أن نفهم أسباب الإلتفاف عليها. خذي اليوم التشكيلات القضائية لماذا هي اليوم موضع إاشتباك سياسي طائفيّ مذهبيّ حزبيّ عقائدي. ولماذا تتعطل في ما يتعلق بسلطة الملاحقة، يعني النيابات العامة وقضاة التحقيق وذلك لأن السياسيين اللبنانيين، جميعهم بلا تمييز، عندما يكونون خارج الحكم يطالبون باستقلال القضاء ويصفون الملاحقات التي يتعرضون لها بأنها مسيسة. عندما يصبحون في قلب معادلة الحكم يشتكون من خصومهم لأنهم يعتبرون أن القضاء أداة سياسية. خذي الإشتباك الذي تتعرض له حاليا جمعية المصارف (هو اليوم وكيلها) فأكيد أن الأزمة يعاني منها جميع المودعين علماً ان المصارف ليست ملك المساهمين إلا بالشكل، في حين هي واقعياً ملك المودعين، ماذا يمثل رأسمال المصرف من نسبة مئوية من نسبة الودائع؟ لا شيء. من هنا، منذ بداية الأزمة، حصل خطأ في تناولها، عن قصد أو عن غير قصد. والسياسيون اللبنانيون شطّار في ذلك. وضعوا إدارات المصارف في مواجهة المودعين في حين هم طرف واحد في مواجهة الدولة التي صرفت الودائع خلافا للقانون».



السيكارة رفيقته


عن المصارف والمودعين

نشعر به قد بدأ في الدفاع عن المصارف - وإن كنا مقتنعين بدور الدولة السلبي جداً في الأزمة - فنسأله: لكن، أليس المودعون قد وضعوا أمانتهم لدى المصارف فأخلت بها؟ يجيب «أولا، كوني محامي جمعية المصارف لا يحق لي أن أقول إن إدارات المصارف ليست مسؤولة أبداً عن الأزمة. السياسيون الذين صرفوا الأموال ليس لهم الحق أيضاً أن يقولوا ان القطاع المصرفي هو المسؤول وحده عن الأزمة. ومن حق كل مودع يرفع الدعوى التي يراها مناسبة تحصيلاً لما يعتبره حقوقه.


نسأله عن غادة عون فيغيّر الموضوع. لا يريد المحامي المحنك الدخول في تفاصيل اللحظة بل يستطرد بالقول عن الإشتباك حول التشكيلات القضائية «كل قاضٍ لديه منطقة معينة يمارس سلطته فيها ويسمونها الصلاحية المكانية. ولا يقدر الإنتقال الى مكان آخر. مثلا مدعي عام بيروت لا يقدر الإدعاء إذا لم تركتبي أي شيء في بيروت ومقرّ إقامتك في جبل لبنان. أو كسروان أو طرابلس. والضابطة العدلية وقضاة التحقيق نفس الأمر، لكن ما حصل في الفترة الأخيرة هو تجاوز للصلاحيات المكانية تحت أعذار شتى. أدت الى احتجاجات معينة من قبل المصارف. واسمحوا ألا أعطي أمثلة تجنباً للدخول في زواريب معينة».


يشعل سيكارة للمرة العاشرة ربما ويتابع كلامه «السياسة أفسدت القطاع المصرفي الذي كان لبنان يرفع رأسه به. وهذا ما حصل في القضاء أيضاً. إنها السياسة ثم السياسة التي اقتحمت المسارين القضائي والمصرفي وعاثت بهما خرابا». تجربته الطويلة في القانون جعلته يخلص الى ذلك.



مع جميل السيد


جزين أولاً

ما قاله ليس سراً. لكن، لنعد معه الى عازور التي تقوده للتكلم عن جزين «كل قضاء جزين أهله لديهم محبة ومستوى علمي أعلى من المعدل العام. قرى جزين ترفع الرأس» ويتذكر «كان بيتنا في مارالياس، وبيت جدي في منطقة الصنائع وهنا، بين بين، أمضيت مع شقيقي شكيب (الذي يصغره سنا وتوفي) طفولتنا. هو تحدر من بيت فؤاد وميّ. وكبر مليئا بالأحلام. نراه أحيانا مليئا بالعفوية وأحياناً لا. فما سره؟ يجيب «سأفشي سرّاً. عندما أترافع تحت قوس المحكمة، لا وجود لأي عفوية. المرافعة عمل متقن محضّر سلفاً بأدق تفاصيله. إذا رأيتموني منفعلاً فقد يكون ذلك محضّراً مسبقاً وقد أكون هادئاً من داخلي، وإذا رأيتموني هادئاً قد أكون منفعلاً في داخلي. غايتي تكون من خلال ذلك إيصال رسالة معينة الى القاضي والى خصمي الدائم المدعي العام».


هو يفصل بين قضايا استلمها وبينه ويقول «القضايا التي استلمتها لا تعنيني، لا تخصني. لا قضية شخصية توكلت عنها. إنها قضايا أشخاص. وكل ما أملكه فيها هو أمانة الوكالة».


لكن، هناك من يعتبر أنه توكل في قضايا فيها ذنوب؟ يجيب وهو يشعل سيكارة أخرى «لا حقيقة مطلقة. الحقيقة مسألة إثبات، أما الحقيقة المطلقة فلا يعرفها إلا الشخص الذي قام بالفعل أو إمتنع عن القيام به وربنا فقط. القاضي لم يشهد هو أيضاً على الفعل أو عدمه بل يقيّم ما تقدم له من إثباتات من هذا الفريق أو ذاك. وواحدة قد تناقض الأخرى. وهو يطبق قناعته وبالتالي يجب ألّا ندمج بين الحقيقة المطلقة والحقيقة القضائية التي تحتاج الى قواعد تمهيدية عديدة للوصول إليها. وأولها، هو أصول المحاكمات التي تحدد الصلاحية الوظيفية والمكانية. هذا معناه أن لكل قاض وظيفة. ومن أجل الوصول الى الحقيقة القضائية نحتاج الى احترام القواعد التمهيدية وحق الدفاع ومبدأ الوجاهية ومبدأ العلنية والإبتعاد عن الأهواء الشخصية أي أن لا تكون للقاضي أهواء وآراء مسبقة. هذه كلها شروط مسبقة لأمن المجتمع».


نسمعه يتحدث، من خلال خبرته الواسعة، عن القضاء النزيه في لبنان. فهل معنى ذلك، أن القضاء حين يتحدث نفسه عن القضاء يجلد نفسه؟ يجيب «ما لنا ولذلك. قيمة القضاء بصورته أمام اللبنانيين».



مع حفيده ناجي البستاني


لا مكر


هناك تسمية لاحقته مراراً: محامي الشيطان الماكر، هل تزعجه؟ يجيب «أولاً، كل القضايا التي استلمتها إنتهت لصالح الموكلين. فمن يكون ماكراً؟ القضاء أنصف هؤلاء. فلنذهب الى النتيجة لا الى الأسباب، في النهاية لا قرار للمحامي. إنه يدلي بوجهة نظره ويجب ان يقنع تسعة قضاة (ثلاثة في القضاء الإبتدائي وثلاثة في الإستئناف وثلاثة في التمييز). أنا أقنعتهم وانتهت القضايا لصالح من توكلت عنهم فإذا كان هناك من مكر ليس للدفاع بل لمن حرك القضايا».


لكن، المشكلة في الشك الدائم في القضاء؟ يجيب «كيف أشك به إذا كان قد أنصفني». أنصفك أنت وظلم سواك؟ يجيب وهو يشعل سيكارة جديدة «ماشي الحال».



قضية زين العابدين بن علي


لماذا يتوجه أصحاب القضايا الصعبة الى مكتب أكرم عازوري بالتحديد؟ يجيب «هذا غير صحيح. الناس تخلط بين الصعوبة الموضوعية والصعوبة السياسية او الإعلامية. كل القضايا التي اهتم بها الرأي العام، إذا نظرنا إليها، موضوعياً لو لم تكن تخصّ أناساً تحت المجهر، فتقنياً ليس فيها اي صعوبة لكن هناك فرقاً بين الحقيقة والتصوّر وكيف ترى الناس الأشياء. الرأي العام ليس إختصاصياً. وليس هذا شغله. إنه يتابع قضية سياسي او اعلامي يعتبرها مهمة. إنها مهمة لكن ليس من الناحية القانونية. أغلب القضايا التي يعتبرونها كبيرة من الناحية التقنية بسيطة جداً. كل القضايا،على تنوّعها، تشكل تراكماً. الرأي العام يهتم بالسياسيين.



وفي مثل على ذلك، قضية الرئيس التونسي زين العابدين بن علي (الذي توكل عنه) بدأت الثورات العربية في كانون الثاني 2011. نسبوا إليه حينها سلسلة من التهم ولم يعطوني تأشيرة لأذهب إلى هناك ( تونس). لا مشكلة (يشعل سيكارة). انا اقول اذا كان الرئيس التونسي سيئاً ومرتكباً لماذا السلطة الجديدة لا تأخذ ضده حكماً يراعي الإختصاص الوظيفي والمكاني وحقوق الدفاع. إذا كانت ارتكاباته قد بررت تغيير النظام فكان يفترض تطبيق حقوق الدفاع. لكن ماذا فعلوا؟ بعد شهر من تركه تونس أتوا بتلفزيون (وهذا سيذكرك بأشياء كثيرة حصلت في لبنان) وفتحوا خزانة بيته. صوروا فيها 20 مليون دولار وقالوا عنه مرتكب. حولوه على المحاكمة. منعوني أن أدافع عنه وخلال نصف ساعة اصدروا الحكم».



لكن، لماذا الرئيس التونسي إختار محامياً لبنانياً؟ يجيب «لا أعرف. هو سألني التوكّل عنه ولبّيت. قابلته في جده. وهو توفي في العام 2019 ونعيته. في الدعوى، بعثنا برسالة مع صورة العشرين مليون دولار التي هي اداة جرمية التي قيل أنها ضبطت في منزله وطلبت معاينتها. لاحقاً، وفي خلال التحقيقات، تبين ان النيابة العامة استعارت من البنك المركزي المبلغ نصف ساعة. نقلتها الى بيت الرئيس السابق. صورتها واعادتها الى البنك فمنعت المحاكمة. اتهموه أنه أخذ طن ذهب فكتبت الى حاكم البنك المركزي التونسي سألته: هل نقص مخزونك، مع تحميلك المسؤولية انت موظف رسمي. أجاب بـ «لا».


يبدو أن من رسموا السيناريوات هناك أغبياء لا أذكياء؟ يجيب «كل المحاكمات السياسية هكذا» ويستطرد: «سأعطئ مثلا أقرب الى لبنان. في العام 1999 إدعوا على عبد المنعم يوسف وهو من أكفأ من أداروا الإتصالات في لبنان ونتائج المالية أظهرت ذلك، وبعد ثلاث أو اربع سنوات خرج براءة. وصلنا الى محاكمة شاهيه برصوميان أوقفوه 11 شهراً بتهمة إختلاس مليون دولار، إستلمت دعواه وخرج بريئاً بقرار من المجلس النيابي. ما أريد قوله أن الشهرة المبنية على هذا النوع من الملفات غير مستحقة. أنا كمحام لا أستحق تلك الشهرة لأنها إعلامية لا تقنية. في الملفات السياسية، نتيجة تغيير العهود وبروز الإرادة بقطف نتيجة الإنتصار السياسي يتسرع من يعدون المكائد».


يوم هدر صوت أهل تونس بثورة الياسمين ومحمد البوعزيزي دافع أكرم عازوري عن الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، ويوم هدر صوت ثوار الأرز في ساحة الحرية والسيادة والإستقلال ترافع عن الضباط الأربعة و... يقاطعنا بالقول «أنا لا أنظر الى الشخص الذي أتوكل عنه بل الى الملف. لهذا أقول إن الشهرة المبنية على المحاكمات السياسية غير مبررة» ويستطرد «أنا لم أكن أعرف جميل السيد مع العلم انه «مهضوم». هو لا يحب أن أقول عنه ذلك لكنه مهضوم».


لن نسأله كيف دافع عن جميل السيد الذي كان، بشكل أو بآخر، وراء توقيف شاهي برصوميان أيام إميل لحود لأنه يصرّ «على أنه لا يهتم بالشخص بل بالملف». لكن، هذا ما حصل.


في كل حال، ما دام الحديث عن الهضامة وعن تأكيد المحامي عازوري أنه يحافظ على طول البال ورباطة الجأش إلا إذا أراد هو نفسه عكس ذلك، نسأله: في تموز 2010 أطلقت شتائم في عقر دار المحكمة الدولية في لاهاي ويومها حاول جميل السيد التقليل من أهمية ذلك بقوله: نحن اللبنانيين نستخدم أحيانا مثل هذا الكلام. فما تعليقك؟ يجيب مبتسماً «جميل السيد من زحلة (من النبي إيلا قضاء زحلة) وأنا من جزين ونحن نستخدم أحياناً بعض العبارات اللبنانية. لم أكن مدركاً أن الميكروفون يومها كان مفتوحاً. كنا نتحدث حول نقطة معينة».



رسالة من خبرات العمر


الإعلام يكبّر الملفات


مضى على دخوله عالم المحاماة أكثر من 45 عاماً. هو أعطاها وقته وجهده وعرقه ويقول: «لا مهنة تشتغلين فيها «نص نص» لأن النتيجة عندها ستكون أيضاً «نص نص». يضيف: المحاماة أصبحت جزءاً مني. عملت على ستة أو سبعة آلاف ملف. لا، لا، أكثر من ذلك. لا ملف كبير وآخر صغير. الملف ملف. وحده الإعلام يصوّر أحد الملفات كبيراً وآخر صغيراً. الملف ملف. وهذا هو الفارق بين ما هو ظاهر وما هو حقيقي، قد يأتيني ملف بين طرفين، فلنقل بين حيطورة وقيتولي على حق ريّ أو ملكية جلّ، قد تحوطه مسائل قانونية بالغة التعقيد تتطلب عشرات الساعات من العمل طوال أعوام. المحامي الذي يربح الدعوى لا أحد يسمع به بينما قضية مثل ملف الضباط الأربعة أو إيداع مبالغ مستعارة في تونس قد تطنطن بهما الأرض ويكسب المحامي شهرة. برأيي الشهرة المكتسبة من وراء الأمور السياسية غير مبررة».


يكرر ذلك، فهل هذا تواضع منه؟ يجيب «لا أبداً. كل ما أريد قوله هو أن الناحية التقنية في دعاوى الريّ مثلا أو في مواضيع الإرث أصعب بكثير». يتحدث أكرم عازوري عن أمور كثيرة. يستذكر أشياء كثيرة لكنه لا يلبث أن يتمهل ويتوقف حين ينساب معه الكلام قائلا «لا أريد الدخول في الزواريب».


تابع إبن عازور ملف بنك المدينة. ملفات لا تعدّ ولا تحصى، لها حيثية ومجرى، تابعها. وسؤالنا: ما هي الأخطاء التي إقترفها أو ندم عليها أكرم عازوري في حياته المهنية؟ يجيب «عادة، لا أندم. لكني أعتبر أن الخطأ الذي اقترفته، وأنا مسؤول عنه، أنني فشلت في إعطاء بعض الملفات الوقت الكافي لدراسة ملفات معينة والإلمام بها. الدائرة هي 360 درجة. ومن أجل تأمين حظوظ النجاح علينا الإحاطة بها كلها، لكن أحيانا قد نكون متعبين، منهكين، فنعاني من قلة الإنتباه ولا نرى إلا 310 درجات على سبيل المثال. وهذا أعتبره خطأ اقترفته.


يحب أكرم عازوري البحر. إنه أسرار. وها هو يفشي سراً عما يقوم به في الصيد البحري: «كنت أغطس وأصطاد السمك بالبندقية، ويرافقني دائما غطاسون ماهرون، محترفون، كانوا يصطادون الكثير، لكني، قبل أن أخرج من المياه كنت أعلق على خاصرتي ما اصطادوه هم. كنت أتباهى بما لم أقم به. واليوم يمكنني أن اكشف ذلك».


ترن ساعته. إنها رسالة بريدية وصلت للتو. يتفحصها بفرح قائلا: حفيدي ناجي البستاني (13 عاماً) قدم هذه الساعة هدية لي. لدي ثلاثة أحفاد، ناجي ابن إبنتي مي، وماريلين وجوزف غاوي، ولديّ إبنتي رنا. وما أعز من الولد إلا ولد الولد. أحبهم كثيراً وأمضي معهم أجمل الأوقات ويستطرد هنا بيقين توصّل اليه: ليس صحيحا أننا نحب أحفادنا أكثر من أولادنا لكننا نفرح بهم لأن لا مسؤولية تربوية تترتب علينا تجاههم».


إبنتاه محاميتان معه في المكتب. وزوجته هيهات «المسؤولة المالية في المكتب» يضحك وهو يخبر ذلك. يستخدم الآي باد كثيراً، رفيقه الدائم ووسيلته التي تسهّل متابعة التفاصيل. وهو يكرر ما كرره على ابنتيه - واليوم على أحفاده - وعلى كل من يحتاج الى نصيحة: الجامعة ليست بحاجة الى شطارة بل الى وقت. الحياة هي التي تتطلب شطارة.


ينفي عازوري أن يكون لديه صداقات مع سياسيين. لكن ماذا عن ميشال سماحه، صديقه منذ أيام الدراسة؟ لماذا لم يتوكل عنه؟ يجيب: إبنتي رنا توكلت عنه. في الختام، قبل أن نغادر، يكتب على سجل العمر خلاصة: الجدية والمثابرة في التحصيل العلمي هما شرط ضروري للنجاح.


نتركه مع موسيقى على البيانو وسيكارة ونظرة من شرفة مكتبه في بدارو. فما زال لديه الكثير لينهيه.

MISS 3