شربل داغر

ضياء العزاوي المدهش

22 أيار 2023

02 : 00

أتاحتْ لي زيارتي الأخيرة للعاصمة الأردنية فرصة حضور افتتاح المعرض الأخير للفنان العراقي ضياء العزاوي ("قاعة كريم"). وهو ما تابعتُه، منذ نهاية السبعينات في القرن الماضي، في معارض عديدة له بين لندن وباريس والدوحة وبيروت وعَمان وغيرها.

هذا ما لم أعرفه بالضرورة مع غيره، ما يعطيني الشعور بأنني أقلب صفحات ووجوهاً في سيرتي ولكن بريشة غيري.

ما هو لافتٌ في هذه المعارض المتتالية، هو أنها مختلفة، بل شديدة التنوع والتعدد أحياناً، فيما لا أتوانى عن النظر إليها نظرة الأليف والقريب.

هذا ما شهدتُه، قبل سنوات قليلة، في بيروت، في أعمال تصميمية للعزاوي، اعتنى فيها بصناعة طاولة ومكتب وخزانة وغيرها، إذ شارك في معرض المصممين، لا في معرض التشكيليين المجاور له.

هذا ما تعرفتُ إليه، قبل ذلك، في الدوحة، إذ وجدتُه يقترح للنظر حصاناً مثخناً بالسهام الجارحة، من دون أن يخرّ صريعاً...

أما ما شاهدتُه في عَمان، فقد ذهب أبعد، إذ صنع أعمالاً خزفية مثل... لوحات، أو مثل... منحوتات، أو مثل ... جدارية آشورية.

هذه المرة "فتحَ" امكانات الخزف على احتمالات مادية وبنائية متأتية من فنون أخرى. مثلما فتح سابقاً احتمالات الخط والورقة في اللوحة والمحفورة، واحتمالات القصيدة في السطر واللون والشكل والعلامة.

هذه الاحتمالات "المفتوحة" بين أشكال الفن البصري ليست متاحة، ولا سهلة، بين الفنانين التشكيليين، خصوصاً في "انعطافاتهم" بين المدارس والتيارات والأساليب.

كثيرون، مثل العزاوي، تنبهوا منذ عقود ثلاثة على الأقل إلى التغيرات في مسارات الفنون التشكيلية، التي يتم اختصارها بالانتقال والتوجه صوب "الفن المعاصر".

وهي تغيرات عنتْ انقلابات حادة عند بعضهم، فانتقلوا وبدلوا، بحيث لم يعد المتابع قادراً على تتبع مسيرة هذا الفنان أو ذاك، ولا على إيجاد مقادير من التتابع في مسيرته.

أما مع العزاوي، فبدا الأمر هيناً ومفاجئاً في الوقت عينه: هو نفسه، وهو غيره، في ما يقوم به وينتجه : فتنة اللون وغواية العين في مساحات وتشكيلات تغلب عليها التصميمية المتفلتة من حدودها، من جهة، وتعبيريةٌ صادمة وجارحة، بشخوصه المشدوخة في زمنها الأليم، من جهة ثانية.

كما لو أنه يُوازن، ويَجمع، ويُباين بين ما للفن أن يجلبه من متعة للناظر بوصفه متلقياً، وبين ما للفن أن يكون عليه بوصف الناظر إليه كائنا في العمق الوجودي الذي للحظة التاريخية.

والمدهش في فن العزاوي هو أنه يتنقل بيسر من تجربة إلى تجربة من دون صدمات، ذلك أنه عارفٌ بل خبيرٌ في ما تتيحه ممكنات الشكل بين أساليب الفن المختلفة.

هكذا لا يتنكر لماضيه، بل يتجدد معه، إذ يجعل من نبضه الإبداعي، لا من خبرته أو معارفه وحسب، ريشته التي يموسق بها تدافعات الانفعال في الزمن المتحول أمام ناظريه.

فن العزاوي، بل فنونه المجتمعة في اي عمل يُقدم عليه، يجعلنا نتجدد، ونرتقي إلى ما لإحساساتنا ويقظتنا أن تكون عليه في زمننا الذي يتحول إلى تُحف أمام ناظرينا.


MISS 3