ديفيد ميليباند

عالم مختلف خارج أوكرانيا

27 أيار 2023

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال مؤتمر صحافي في الذكرى الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا | كييف، أوكرانيا، شباط ٢٠٢٣

«أوكرانيا وحّدت العالم»! هكذا قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال خطاب ألقاه في الذكرى الأولى لبدء الحرب مع روسيا، لكنّ الواقع مختلف للأسف. لا شك في أن الحرب وحّدت صفوف الغرب، لكنها زادت انقسامات العالم في الوقت نفسه، ومن المتوقع أن يتوسّع هذا الشرخ إذا فشلت الدول الغربية في معالجة أسباب الأزمة الأصلية.

يشمل التحالف التقليدي عبر الأطلسي بلداناً من أوروبا وأميركا الشمالية، وقد تحرّك هذه المرة بطريقة غير مسبوقة للتعامل مع الصراع المطوّل في أوكرانيا، فقدّم دعماً إنسانياً كبيراً للشعب داخل أوكرانيا واللاجئين الأوكرانيين في الخارج. كما أنه يستعد لمشاريع ضخمة لإعادة إعمار البلد بعد الحرب. لكن خارج أوروبا وأميركا الشمالية، لا يعطي أحد الأولوية للدفاع عن أوكرانيا. تدعم حكومات قليلة الغزو الروسي الفاضح، لكن لم يقتنع الكثيرون حتى الآن بإصرار الغرب على اعتبار النضال في سبيل الحرية والديمقراطية في أوكرانيا جزءاً من نضالهم.

لا يقتصر الشرخ القائم بين الغرب وبقية الدول على تحديد الجوانب الصائبة أو الخاطئة من الحرب، بل إنه نتاج استياء عميق من فشل الغرب في إدارة العولمة منذ نهاية الحرب الباردة. انطلاقاً من هذا المبدأ، جاء الرد الغربي الموحّد على الغزو الروسي ليسلّط الضوء على الحالات التي انتهك فيها الغرب قواعده الخاصة أو امتنع عن التحرك لمعالجة المشاكل العالمية. قد لا تبدو هذه الأفكار صائبة مقارنةً بالأعمال الوحشية اليومية التي تتحمّلها أوكرانيا على يد القوات الروسية، لكن يُفترض أن يعالج القادة الغربيون هذه المشكلة بدل تجاهلها. سيكون الفرق الكبير في وجهات النظر خطيراً في عالمٍ يواجه أصلاً تهديدات عالمية هائلة، حتى أنه قد يمنع إعادة إحياء النظام الذي يعكس توازناً جديداً ومتعدد الأقطاب للقوة حول العالم.

بالإضافة إلى ابتكار طريقة أكثر إنصافاً لمعالجة المخاطر العالمية، يجب أن تتقبّل الدول الغربية مطالبات البلدان النامية التي تريد زيادة تأثيرها على الساحة الدولية. تشتكي بلدان كثيرة من غياب التوازن في النفوذ العالمي داخل المؤسسات الدولية اليوم. اتّضح هذا الوضع حديثاً خلال أزمة كورونا. كانت مبادرة «تسريع إتاحة أدوات مكافحة كوفيد-19» التي أطلقتها منظمة الصحة العالمية بالغة الأهمية لتسهيل حصول الدول على اللقاحات والعلاجات وأدوات التشخيص. لكن لم يكن ممثّلو البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط جزءاً من إدارة البرنامج. أدى غياب تمثيلهم إلى إعاقة الجهود الرامية إلى توزيع اللقاحات أو تسليم خدمات صحية أخرى بطريقة عادلة وفاعلة.

تشكّل مسألة الفيتو في مجلس الأمن دليلاً مفيداً آخر على ضرورة إعادة التوازن إلى جميع المؤسسات الدولية لتقبّل وقائع السلطة المعاصرة. في الوقت الراهن، يملك الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن (الصين، فرنسا، روسيا، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة) الحق في رفض أي قرار، ما يعني تهميش الأعضاء العشرة الآخرين، علماً أن جزءاً كبيراً منهم يمثّل بلداناً ذات دخل منخفض أو متوسط.

من المستبعد أن يفرض المعنيون إصلاحاً يقضي بتغيير عدد الدول التي تملك حق النقض في المجلس. لكن تثبت الصراعات المستمرة في إثيوبيا، وسوريا، وأوكرانيا، واليمن، إلى أي حد يفلت المرتكبون بأفعالهم نظراً إلى عجز مجلس الأمن عن التحرك بسبب حق النقض أو التهديد باستعماله. وقّع أكثر من مئة بلد على اقتراح فرنسي مكسيكي يدعو الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن إلى الموافقة على عدم استعمال حق النقض في قضايا الأعمال الوحشية الجماعية. يفضّل بعض الأعضاء الدائمين ممارسة ضبط النفس أصلاً، فقد امتنعت المملكة المتحدة مثلاً عن استعمال حق النقض في أي مسألة منذ العام 1989.

يدعو هذا الاقتراح أمين عام الأمم المتحدة إلى تحديد القضايا التي تستحق تعليق حق النقض بناءً على تعريف واضح لمعنى «الأعمال الوحشية الجماعية». هذا الإصلاح قد يجعل صناعة القرار في المجلس أكثر إنصافاً، فتشمل هذه العملية آراء الأعضاء العشرة المُنتخَبين بالإضافة إلى الدول الخمس دائمة العضوية. عبّرت الولايات المتحدة عن قلقها من احتمال تسييس عملية تعريف الأعمال الوحشية. من المبرر أن يقلق المسؤولون الأميركيون من عواقب التخلي عن حق النقض (ولو في ظروف محدودة). لكن بعد إقدام موسكو على استعمال هذا الحق بشكلٍ متكرر لمنع القرارات المرتبطة بأوكرانيا في السنة الماضية، يُفترض أن تفكر واشنطن بالمكاسب أو الخسائر الناجمة عن عدم رسم الحدود المناسبة لحق النقض.

على صعيد آخر، تحتل الخطابات أهمية كبرى في خضم المعركة على كسب الرأي العام العالمي. لم يُعْطِ إصرار الغرب على اعتبار الحرب في أوكرانيا صراعاً بين الديمقراطية والاستبداد الأصداء المنشودة خارج أوروبا وأميركا الشمالية. يحارب الأوكرانيون فعلاً من أجل ديمقراطيتهم وسيادتهم، لكن تعتبر بقية دول العالم الغزو الروسي تجاوزاً كبيراً للقانون الدولي. ينطبق هذا التصنيف أيضاً على الاعتداءات العسكرية الروسية التي استهدفت المدنيين الأوكرانيين والبنية التحتية المدنية.

لكن يبرز بديل أفضل بعد. يُفترض أن تعتبر الحكومات الغربية هذه الحرب صراعاً بين حُكم القانون وغياب المساءلة أو بين القانون والفوضى، بدل اعتبارها صراعاً بين الديمقراطية والاستبداد. تحمل هذه المقاربة منافع عدة، فهي تعتبر الديمقراطية جزءاً من الوسائل التي تُسهّل محاسبة المرتكبين وتكبح استغلال السلطة، كما أنها تُوسّع المعسكر الداعم لهذه الجهود، وتختبر نقاط ضعف الصين التي تزعم أنها تدعم النظام الدولي، وتتجاوز المصالح الشخصية، وهو هدف مهم نظراً إلى المشاكل التي تطبع عدداً كبيراً من الديمقراطيات الليبرالية. سيكون التحالف المبني على الحاجة إلى قواعد دولية أوسع بكثير من التحالف القائم على الدعوات لإرساء الديمقراطية.

لكن يجب أن تلتزم الدول الغربية بحُكم القانون كي تتمكن من الدفاع عن هذا المبدأ. قد تصبح إدانة الولايات المتحدة لمخالفة اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار من الجانب الصيني أكثر إقناعاً إذا صادقت واشنطن على تلك الاتفاقية. أطلقت نائبة الرئيس الأميركي، كامالا هاريس، نداءً قوياً خلال مؤتمر ميونيخ للأمن دعماً لمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب في أوكرانيا، لكن كانت هذه الدعوة لتصبح أكثر فاعلية لو صادقت الولايات المتحدة على نظام روما الأساسي الذي انبثقت منه المحكمة الجنائية الدولية في العام 1998. لا يتردد منتقدو القوى الغربية وخصومها في التكلم عن هذه المعايير المزدوجة، ولا يصعب تخمين السبب.

لكن ما أهمية مواقف بقية دول العالم في الملف الأوكراني؟ أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال خطاب ألقاه في حزيران 2022، أن تلك المواقف مهمة فعلاً نظراً إلى «نشوء مراكز قوة جديدة في العالم» بعد الحرب، في إشارة إلى ازدهار قوى مثل البرازيل، والصين، وجنوب أفريقيا. يعتبر بوتين هذه التغيرات «أساسية ومحورية». في غضون ذلك، أطلقت الصين سلسلة من المشاريع العالمية تحت شعار «رابطة المصير المشترك للبشرية»، وهي تشمل برنامجاً واسعاً للقيام باستثمارات في البنية التحتية («مبادرة الحزام والطريق»). إنه إثبات واضح على تغيّر النظام العالمي.



الرئيس الأميركي جو بايدن خلال خطاب حالة الاتحاد



في المقابل، خصّص الرئيس الأميركي جو بايدن أقل من ثلاث دقائق لمناقشة الشؤون العالمية التي تختلف عن الملف الأوكراني خلال خطاب حالة الاتحاد الذي دام لأكثر من ساعة في شهر شباط الماضي. إنها ثغرة لافتة نظراً إلى مصداقية إدارته: تتلقى الصومال مثلاً أكثر من 90% من المساعدات الإنسانية من الولايات المتحدة في الوقت الراهن. لن يحبذ الرأي العام المحلي الأجندة التي تُركّز على استمالة بقية دول العالم، إذ يختار الناخبون توجهاتهم لأسباب مختلفة. لكن تدلي بلدان أخرى بأصواتها أيضاً. قد لا يشارك هؤلاء في الانتخابات الأميركية مباشرةً، لكن تؤثر توجهاتهم على المصالح الأميركية حول العالم. في الملف الأوكراني، صمد الاقتصاد الروسي رغم العقوبات الغربية بعد توسيع عملياته التجارية مع العالم غير الغربي، وإقامة تحالفات جديدة في مجال الطاقة، وإيجاد مصادر جديدة لإمدادات الأسلحة. تحمل هذه الروابط أهمية كبرى.

لا يزال الغرب، ككيان جيوسياسي، لاعباً قوياً ومؤثراً، لا سيما بعد توحيد صفوفه في الفترة الأخيرة. في القرن الواحد والعشرين، قد تصبح الحصص النسبية من المداخيل العالمية في البلدان الغربية أقل مما كانت عليه في القرن العشرين. مع ذلك، يبقى متوسط الدخل الفردي في البلدان الغربية مرتفعاً مقارنةً بالمعايير العالمية. لا تزال قوة الغرب العسكرية والدبلوماسية فائقة، بينما تبدو الأنظمة البديلة عن الديمقراطية قمعية وغير جاذبة.

في الوقت نفسه، تبدو مطالبات بعض البلدان بإبرام صفقة جديدة على المستوى الدولي منطقية في حالات كثيرة. سيكون التعامل مع هذه المطالب بحُسن نية وفي أسرع وقت ممكن عاملاً أساسياً لبناء نظام عالمي يرضي الدول الديمقراطية والليبرالية ومواطنيها. سمحت الحرب في أوكرانيا للغرب إذاً بإعادة اكتشاف قوته وتحديد أهدافه. لكن يُفترض أن تستفيد الحكومات الغربية من هذا الصراع أيضاً للاعتراف بنقاط ضعفها وإخفاقاتها.


MISS 3