%85 من الإصلاحات المطلوبة... معلّقة أو مؤجلة!

02 : 00

بري وميقاتي يقولان ما لا يفعلان!

نشرت منصة «مبادرة سياسات الغد» دراسة تحت عنوان «محدودية الإصلاحات وشروطها في إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار في لبنان»، أكدت انه لا يعدّ تقديم التعهدات بإجراء إصلاحات أمراً جديداً على لبنان، كونه من أكثر الدول تلقياً للمساعدات الدولية. وفي الواقع، باتت الطبقة السياسية الحاكمة فيه مخضرمةً في مجال تقديم مثل تلك الوعود ولكن بدون الإيفاء بها. لقد أثبتت هذه الوعود على مدى عقود طويلة أنها أداة ناجحة وناجعة تستخدمها هذه الطبقة لتعزيز قبضتها على السلطة وإضفاء المزيد من الشرعية على ذاتها والحصول على المزيد من المساعدات. وبعثت هذه التعهدات الأمل إلى المواطنين في إمكانية تلبية احتياجاتهم من خدمات عامة وحوكمة أفضل. إلا أن معظم هذه الوعود الإصلاحية كانت فارغةً. وفي ما يلي خلاصة الدراسة كما نشرتها المنصة: من سنة 2000 إلى 2020، صادقت الطبقة السياسية الحاكمة على بنود عشرات البيانات الوزارية وبرامج المساعدات التي تقتضي تنفيذ إصلاحات هيكلية. ومع ذلك، وبعد النظر في نتائج تلك التعهدات، تبين من جهودنا السابقة أن أداء الدولة جاء مخيّباً للآمال وهي لم تفِ بوعودها بل أعادت تقديمها بقالب جديد.

هيكلية مبتكرة

في أعقاب انفجار مرفأ بيروت في آب/أغسطس 2020، قدّمت المنظمات الدولية للبنان إطار مساعدات إضافياً. وقد شملت مراحله الأولى تقديم المساعدات الإنسانية وأطلق عليه اسم إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار. وبالاستناد إلى التحولات في هيكلية المساعدات في دول أخرى بعد وقوع الكوارث فيها وبالنظر إلى سجل الدولة السيئ في هذا المجال، صمّمت وكالات الأمم المتحدة ومعها البنك الدولي والاتحاد الأوروبي هيكليةً مؤسسيةً مبتكرةً لإدارة المساعدات وتوزيعها، وأشركت منظمات المجتمع المدني في هيكلية صنع القرارات. إضافة إلى ذلك، اشترط إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار صرف مبالغ كبيرة من التمويل الميسّر (حوالى 2 مليار دولار) لتنفيذ قائمة من «الإصلاحات الضرورية»، التي أطلق عليها تسمية نقاط العمل وتشمل 16 قطاعاً مثل: الحماية الاجتماعية، الشراء العام، الأعمال التجارية والقضاء.

إخفاق صارخ

كما يوضح هذا المقال، أخفقت هيكلية المساعدات الجديدة هذه إخفاقاً صارخاً في تنفيذ الإصلاحات. ولم يطبّق سوى جزء ضئيل جداً من الإصلاحات المقترحة. كما تمّ، إلى حدّ كبير، تجاهل تلك التي تتطلب التزاماً سياسياً كبيراً. إضافة إلى ذلك، استُمدّت إصلاحات كثيرة وردت في هذا الإطار من برامج مساعدات سابقة. وهذا لا يدل فقط على عدم رغبة الطبقة الحاكمة باعتماد الإصلاحات بل على سعيها أيضاً للاستمرار في استراتيجية المماطلة والتأجيل. وأخيراً، بالنسبة إلى الإصلاحات المهمة القليلة التي تم إقرارها، فقد كان مصيرها إمّا التأجيل أو التجاهل أو تفريغها من مضمونها بمجرد سنّها في قوانين.

138 نقطة عمل

أجرت مبادرة سياسات الغد ومختبر المدن بيروت مؤخراً بحثاً بهدف تحديد مدى نجاح إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار في تحقيق الإصلاحات الواردة فيه. قاما بتقييم هذا الإطار من خلال دراسة التقدّم الذي أحرزته الدولة في إنجاز نقاط العمل الـ138 المحددة ضمن الأجندة الإصلاحية وتحديد مستوى الالتزام السياسي المطلوب لكل نقطة منها. لإتمام هذا التقييم، أجريت بحوث مكتبية وأجريت مقابلات مع أهم الجهات المعنية، وطبّق إطار استخدم سابقاً لدراسة جداول أعمال إصلاحات مؤتمر باريس 3 ومؤتمر سيدر. كان لـ66 نقطة من أصل نقاط العمل الـ138 تداعيات قانونية فرضت ضرورة وضع 86 نصاً تشريعياً وتطبيقياً من الدولة اللبنانية. تتركز هذه النصوص في الغالب على القطاعات الآتية: الحماية الاجتماعية والأعمال التجارية والقضاء والشراء العام والمرفأ. وقد فصّل البحث هذه النصوص الـ86 تفصيلاً إضافياً من خلال تحديد نوع النصوص التشريعية أو التنظيمية التي يجب استحداثها لضمان تنفيذها: قانون أو مرسوم أو قرار وزاري، إذ يتطلب كل نوع منها مستوى التزام سياسي مختلفاً. فالقوانين تستوجب أعلى مستوى من الالتزام السياسي بما أنها تحتاج إلى التوافق بين الأحزاب في السلطة، الأمر الذي يتجلى في عملية التصويت عليها في مجلس النواب. أما القرارات الوزارية الصادرة عن الوزراء بصفة فردية، فتستوجب حدّاً أدنى من الالتزام السياسي. وأخيراً، تتطلب المراسيم الصادرة عن مجلس الوزراء مستوىً متوسطاً من الالتزام السياسي.

لا تقدم ملحوظ

تبيّن أن إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار هذا لم يحقق أي تقدم ملحوظ في تطبيق الإصلاحات المتوخاة بسبب رفض الدولة اللبنانية الالتزام بها من الناحية السياسية. وبحلول حزيران/يونيو 2022، لم ينجز سوى 20 نصاً، ما تمثل نسبته 20% فقط، من النصوص التشريعية والتطبيقية الـ86 التي تعهدت الدولة بوضعها عند إطلاق الإطار المذكور في كانون الأوّل/ديسمبر. علاوةً على ذلك، من بين النصوص التشريعية والتنفيذية الـ60 التي تستوجب التزاماً سياسياً متوسطاً أو عالي المستوى (39 قانوناً و21 مرسوماً)، لم ينجز إلا سبعة قوانين (18% من الإصلاحات التي تستوجب قوانين) ومرسومين اثنين (10% من الإصلاحات التي تستوجب مراسيم). وهذا ما يعني أن الغالبية الساحقة من الإصلاحات (85%) ما زالت قيد التنفيذ أو معلّقة.





بين 14 و 23%

لم تكن هذه المرة الأولى التي يتم فيها الامتناع بشكل مقصود عن تلبية شروط برامج المساعدات. فبمجرد إجراء مقارنة معيارية بين الإصلاحات المنجزة بموجب إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار وتلك المنجزة بموجب مؤتمر باريس 3، يتبين أنّ الأحزاب الحاكمة قلما تفي بوعودها الإصلاحية. فقد طُبقت 23% من الإصلاحات التشريعية بموجب إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار مقارنة بـ22% من الإصلاحات التي تم الاتفاق عليها في مؤتمر باريس 3. إضافة إلى ذلك، بقي مستوى أداء الدولة اللبنانية في مجال إقرار القوانين المرتبطة بالبرنامجين على حدّ سواء على حاله: تمّ إقرار 18% من القوانين الإصلاحية التي نص عليها إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار مقارنةً بـ14% من تلك التي نص عليها مؤتمر باريس 3. تحتوي الأجندة الإصلاحية الخاصة بإطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار، باعتباره إطاراً جديداً للمساعدات، على عدد كبير من التعهدات التي قامت بها الدولة اللبنانية في مؤتمرات سابقة للجهات المانحة الدولية ولكنها لم تنفذها أبداً. فقد تم التعهد سابقاً، في مؤتمر باريس 3 أو مؤتمر سيدر أو كجزء من العمل المتواصل للحكومة ومجلس النواب على السياسات، بتنفيذ 52 من أصل النصوص التشريعية والتطبيقية الـ86 المذكورة في الأجندة الإصلاحية. حتى في الحالات التي تم فيها تطبيق الإصلاحات الموصوفة من النخب الحاكمة «بالإصلاحات المنجزة»، فإنّ طريقة التلاعب بمحتوى هذه الإصلاحات من النخب نفسها ينم عن الخداع الذي تقوم به هذه النخب. يبيّن مثالان من إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار كيف يمكن الحد من جودة الإصلاحات حين تصدر عن صنّاع القرار اللبنانيين.

مثال قانون الشراء العام

يتعلّق المثال الأوّل بقانون الشراء العام، الذي أقرّه مجلس النواب عام 2021 بعد أن تمّ التعهد بسنّه في مؤتمر باريس 2 سنة 2002. إلا أنّ أحكام هذا القانون لا تُطبّق. ففي 6 شباط/فبراير 2023، منح مجلس الوزراء عقداً عامّاً لإحدى الشركات لتنفيذ أعمال التنظيف والصيانة في مبنى وزارة التربية والتعليم العالي بدون إطلاق أي مناقصة عامة. كما قام مجلس النواب مؤخراً بتعديل القانون لإعفاء الأجهزة الأمنية من موجب الالتزام به وأضاف إليه بعض الشروط التي قد تعيق المنافسة في عملية الشراء.

مثال المساعدات الاجتماعية

أما المثال الثاني فيتعلق بتوسيع نطاق المساعدات الاجتماعية من خلال المشروع الطارئ لشبكة الأمان الاجتماعي المخصّص للبنان، وهو برنامج يُعنى بالأمان الاجتماعي مموّل من البنك الدولي. ففي كانون الأوّل/ديسمبر 2021، أقرّت الأحزاب السياسية الحاكمة قانوناً يشرّع هذا البرنامج، وذلك بعد مرور حوالى السنتين على اقتراح هذا القانون. ويعود السبب في ذلك بالدرجة الأولى إلى محاولات التدخل الكثيرة في تصميم البرنامج، لا سيما في قيمة المساعدات التي ستُوزّع، وعملية اختيار المستفيدين، وآليات المراقبة الخاصة به.

المساعدات المشروطة

ينمّ الفشل في تنفيذ الإصلاحات المشمولة في نقاط عمل إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار عن محدودية الشروط المستخدمة كوسيلة لفرض تحقيق الإصلاحات في سياق الاقتصاد السياسي في لبنان. وبالتالي، يشبه هذا الإطار برامجَ المساعدات المشروطة السابقة التي نُفذت في لبنان، لأنه يظهر مدى عجز الشروط المفروضة عن تحفيز الطبقات الحاكمة المعتادة سرقة المال العام على إجراء الإصلاحات ويمنح الأولوية للحلول التقنية على حساب التغيير الاجتماعي والسياسي.


تطبيقات انتهازية

كالعديد من المقالات التي سلّطت الضوء على كيفية تحوّل قطاع المساعدات إلى نظام متصدّع يمنح الحلول التقنية قصيرة المدى الأولوية على حساب تحقيق التغيير الاجتماعي والسياسي (إضافة إلى زيادة اللامساواة الهيكلية والتسبب في المزيد من الاختلالات في موازين القوى)، لا يسع سوى التشكيك في الفائدة التي يمكن تحقيقها من برامج المساعدات الدولية المشروطة التي يبدو أنها لا تساهم سوى في الحفاظ على استمرارية قطاع المساعدات نفسه. كما ثمة شعور بالقلق إزاء إمكانية توفير فرص استثمارية جديدة للطبقة الحاكمة وشبكاتها، بموجب هذا الإطار في المستقبل القريب، نظراً للتجربة السابقة المتمثلة في عقود الشراء المرتبطة بالبنية التحتية لمجلس الإنماء والإعمار والتي لُزّمت للشركات التي يملكها السياسيون المنتمون إلى هذه الطبقة، والتي تمثّل خريطة طريق سيحاولون حتماً سلوكه من جديد.