صُدِم «الثنائي الشيعي» بسرعة تقدّم ترشيح الوزير الأسبق جهاد أزعور وبالمدى الذي وصلت إليه القوى المعارضة في المرونة لإسقاط مرشحه والاتفاق على بديل لا يمكن وصفه بالتحدّي، بينما جاءت الإشكالية الأخرى من إصرار النائب جبران باسيل على المضيّ قُدُماً في رفض مسايرة «الحزب» في خياره الرئاسي، الأمر الذي أفقد مسؤولي «حزب الله» وحركة أمل التوازن فخرجوا عن أطوارهم وراحوا يقصفون عشوائياً على غير هدى، مجدِّدين إصرارهم على إكراه الجميع على «التوافق» دعماً لسليمان فرنجية.
تدلُّ صدمة الثنائي وطريقة التعبير عنها على عنجهيّة تلاقي منطق المناورات العسكرية والتهويل بها على الداخل قبل الخارج، وتدفع إلى التساؤل عن سرّ التمسّك الشخصي بفرنجية في موقف يشبه إلى حدٍّ كبير إصرار النظام السوري على التمديد لإيميل لحود رغم توافر قيادات موالية له في تلك المرحلة التي يبدو أنّه كان مطلوباً لشخصه نظراً لما كان مخطّطاً له حينذاك وبلغ ذروته في اغتيال الشهيد رفيق الحريري.
اليوم، يبدو أنّ فرنجية مطلوبٌ لذاته ومواصفاته الشخصية، في ما هو أبعد من الخيارات السياسية العامة، ولهذا ينبغي التفكير وفهم الرؤية التي يتحرّك فيها «حزب الله» وموقعها في المشروع الإيراني الذي يراكمه في لبنان عسكرياً وسياسياً واستراتيجياً.
تـُشـكّل رئاسة الجمهورية بالنسبة إلى «حزب الله» في هذه اللحظة الإقليمية والاتفاق السعودي الإيراني استحقاقاً مصيرياً، فهو يريد اختزال إنجازاته ومكتسباته برئيسٍ يُعيد من خلاله تكوين السلطة لتكون مُسَخَّرةً للاستحواذ الكامل على الدولة ولإقصاء معارضيه مع استنتساخ النموذج الإيراني في الحكم: انتخاباتٌ محكومة بمرشح واحد وعسكرةٌ للمجتمع وضربٌ للديمقراطية وإزهاقٌ للحريّات وتغييرٌ في طبيعة الكيان وإزالةٌ للتوازنات في الدولة.
خلال ولاية ميشال عون، كانت هناك مساحةٌ لرئيس الجمهورية في الدولة: الجيش والوزارات والإدارات العامة والقضاء نزولاً إلى التنازع على حراس الأحراج، وبغضّ النظر عن الطائفية التي تعاطى فيها عون ومعه جبران باسيل في إدارة هذه المواقع، لكنّ الواضح أنّ أحد أهمّ أهداف «حزب الله» من فرض رئاسة سليمان فرنجية، هو تقليص المساحة الخاصة برئاسة الجمهورية في الدولة لصالح التوزيعة التي يريدها الحزب لاستكمال احكام قبضته على الدولة، فمع فرنجية تصبح الكلفة أرخص بكثير.
تبرز أهميّة هذه المقاربة بالنسبة إلى «حزب الله» من خلال تجربة القاضي طارق البيطار في عمله على قضية جريمة تفجير مرفأ بيروت واضطرار «الحزب» لسلوك طريق التهديد المباشر بـ»قبع» الرجل بعد فشل مسلسل الالتفاف الطويل على إجراءات القضاء إلى درجة الاستعداد لإشعال الفتنة جهاراً نهاراً في غزوة الطيونة عين الرمانة.
مع فرنجية، يمتلك «حزب الله» ناصية القرار في الجمهورية، وبإمكانه إحداث التغيير الشامل الذي يريده في جميع مفاصل الدولة، من دون مقاومة تُذكر، خاصة أنّ وصول هذا المرشح سيعني حكماً تحقيق معادلة الغلبة على سائر اللبنانيين، وتشكيل حكومة مطواعة، أحد مرشحيها النائب فيصل كرامي، وهذا سيفتح الباب على ضرب التوازنات في البلد على جميع المستويات.
ذكرت التسريبات من أوساط «حزب الله» أنّ قيادته عرضت على جبران باسيل ما يشاء من مناصب ومواقع وأثمان مقابل تأييده لسليمان فرنجية، وهذا يدلّ على أنّ «الحزب» يتصرّف بالدولة على أنّها ملكيّة خاصة يهبها لمن يشاء ويحجبُها عن من يشاء، وهذا يؤكِّد أنّ كلّ السياق محكومٌ بالهيمنة التامة، وربما يكون هذا أحد أسباب نفور باسيل من «الحزب».
لا يريد «حزب الله» أن يسمح بأن تستعيد الدولةُ أنفاسها، لذلك، فهو مستعدٌّ لخنق أي بادرة توحي باحتمال الإبقاء على روحية الدولة ولو بحدودها الدنيا، لذلك كانت مناورته العسكرية في الجنوب، واستحضاره الأحزاب العقائدية التي لا تعترف بالكيان اللبناني (القومي والبعثي) لتشريع سلاحها من الجنوب نحو الداخل، واستمراره في التهديد بالفراغ مهما عظمت الأثمان، لذلك يصبح انتظار الوصول إلى تسوية يشارك فيها الثنائي الشيعي أشبه بانتظار القطار في مسرحية المحطة للرحابنة، بينما يقوم «الحزب» و»الحركة» بزراعة الألغام على طرقات الحلول لإسقاط جميع المبادرات الهادفة إلى إنهاء الشغور الرئاسي.
لن يكون من المبالغة القول إنّ على اللبنانيين الاستعداد لانتظار طويل سيشهد انهيار آخر مداميك دولتهم المستباحة، وهو سيزداد سوءاً في حال وصول فرنجية إلى قصر بعبدا.