الانتخابات الأميركية في زمن "كورونا"

05 : 10

يكشف تعامل الولايات المتحدة مع انتشار فيروس كورونا الجديد للعالم جزءاً من حكمها اللامركزي، وستثبت طريقة إجراء انتخابات العام 2020 في زمن التباعد الاجتماعي نقاط قوة هذا النظام ومكامن ضعفه. سبق وأدى غياب المعايير والقواعد والقوانين الفدرالية خلال المرحلة التمهيدية إلى نتائج متفاوتة، ما دفع بعض الولايات، على غرار أريزونا، إلى إجراء الانتخابات الأولية بعد فرض تعديلات طارئة، بينما اضطرت ولايات أخرى، مثل لويزيانا، إلى تأجيل الاستحقاق لأنها لا تعتبر نفسها مجهّزة لإجراء الانتخابات في بيئة آمنة.

تأجيل الانتخابات الرئاسية العامة في تشرين الثاني المقبل سيثير انقساماً حاداً طبعاً وسيكون مستحيلاً من الناحية اللوجستية. سيضطر الرئيـــس والكونغرس المنقسم لـتمرير قانون خاص لتغيير موعد الانتخابــات، ويصعب تخيّل تداعيــــات هذا القرار. يجب أن تحصل الانتخابـــات في مطلق الأحوال، ومـن واجب المشرّعـــين الفدراليين والحـكوميين والمحليين ألا يسمحوا للظروف الاستثنائية الراهنــــة بمنع إجراء انتخابات عادلة.

انتخابات عن بُعد

قد يؤدي وباء "كوفيد-19" المشتق من فيروس كورونا الجديد إلى إعاقة المسار الذي أقرّه الأميركيون لتحديث سجلات الناخبين للمرة الأولى. في الحالات العادية، يشارك ملايين الناخبين في هذه العملية خلال الأشهر والأسابيع التي تسبق الانتخابات الرئاسية. لكن بسبب الظروف الراهنة، سيجد الأميركيون صعوبة في تقديم طلبات التسجيل ولن يتمكن المشرفون على الانتخابات من إنهاء المعاملات في الوقت المناسب. كذلك، قد يثني انتشار الوباء الناخبين عن التسجّل ويقلّص عدد من يقصدون المكاتب الحكومية التي تتولى تسجيل الناخبين.

لحسن الحظ، تقدّم 39 ولاية، إلى جانب العاصمة واشنطن، خيار تسجيل الناخبين عبر الإنترنت. إنه بديل محتمل عن المعاملات النموذجية التي تحصل عن طريق البريد. من المتوقع أن يزيد شيوع هذه الأنظمة الإلكترونية، لذا لا بد من اختبارها وتحديثها للتعامل مع زيادة الطلب عليها. في ولايات معيّنة، تتطلب الأنظمة حتى الآن معاملات يدوية وتحتاج إلى الأتمتة. وتفتقر ولايات أخرى إلى نظام تسجيل الناخبين عبر الإنترنت أصلاً، وتحتاج إلى ابتكار أنظمة مماثلة في أسرع وقت كي يتمكن الناخبون من التسجّل فيها للمشاركة في الانتخابات في شهر تشرين الثاني. أما الولايات التي تعجز عن إنشاء نظام تسجيل إلكتروني مركزي، فيجب أن تستكشف أدوات إلكترونية آمنة بديلة لتسجيل الناخبين. لا يستفيد جميع الناخبين من شبكة إنترنت آمنة، لذا يتعين على الولايات أن تقوم باستثمارات تضمن التواصل مع الناس وتوعيتهم ومراسلتهم، كي تواكب عملية تسجيل الناخبين آخر التطورات.

خلال الأشهر المقبلة، يجب أن يعزز المشرفون على الانتخابات أمن أنظمة التسجيل عبر الإنترنت ويوسّعوا نطاقها، ويجب أن يحاولوا تقليص مخاطر الاعتداءات، أي محاولات تغيير المعلومات أو منع وصول الناخبين إلى الشبكة في ذروة فترات التسجيل، وأن يمنعوا تعطّل الأنظمة بسبب الحركة الفائقة لأنها لم تكن مُصمّمة على الأرجح لتحمّل الضغط الذي ستواجهه خلال الصيف والخريف المقبلَين. للتأكد من دقة البيانات، على المسؤولين أن يقوموا بمراجعات متكررة ويشجّعوا الناخبين على التحقق من معلومات التسجيل.

من المتوقع أن يحصل التصويت عبر البريد في دوائر انتخابية متعددة. لكن لا يمكن اعتبار جميع الولايات مستعدة لهذا الاستحقاق. في الأسبوع الماضي، طرح السيناتوران الديموقراطيان، رون ويدن من ولاية أوريغون وإيمي كلوبوشار من مينيسوتا، مشروع قانون يطلب من جميع الولايات أن تعطي الناخبين خيار إرسال تصويتهم عبر البريد، بغض النظر عن أسباب اختيار هذه الطريقة. سبق وأقرّت 33 ولاية هذا التدبير، منها خمس ولايات تجري كامل انتخاباتها عبر البريد (كولورادو، هاواي، أوريغون، يوتا، واشنطن)، ما يعني وصول ورقة الاقتراع تلقائياً إلى كل ناخب مؤهل (لا حاجة إلى تقديم أي طلب). لكن في 17 ولاية أخرى، لا يزال التصويت عبر البريد أقل شيوعاً، ويجب أن يلبّي الناخبون معايير محددة قبل أن يُسمَح لهم باستعمال هذه الطريقة.

لمنح جميع الأميركيين المؤهلين خيار التصويت عن طريق البريد، فضلاً عن إقرار التعديلات اللازمة في النظام الانتخابي الأميركي، لا بد من استثمار مليارَي دولار على الأقل. إنه مبلغ صغير مقارنةً بحزمة التحفيز الفدرالية التي تصل قيمتها إلى تريليون دولار وأصبحت قيد النقاش راهناً. لكن لا أحد يعرف إذا كان الكونغرس يدرك حجم الأموال اللازمة أو ضرورة توفيرها في أسرع وقت: في حزمة التحفيز الأخيرة لمكافحة فيروس كورونا، اقترح الجمهوريون في مجلس الشيوخ منح الولايات 140 مليون دولار فقط كي تتمكن من إجراء انتخابات نزيهة في الخريف المقبل. في المقابل، اقترح الديموقراطيون في مجلس النواب تقديم مبلغ 4 مليارات دولار كي تسحب منه الولايات حاجتها على مر العام 2021.

لكن لن تقتصر حاجات الولايات على بطاقات الاقتراع والمغلفات ورسوم البريد لجميع الناخبين المسجّلين، بل ثمة حاجة إلى إنشاء بنية تحتية أساسية، منها برمجيات تعقب الاقتراع (تسمح للمواطنين بالتصويت بكل أمان وثقة)، ومعدات لفرز الأصوات واحتساب بطاقات الاقتراع عبر البريد (لأن الأنظمة المستعملة تختلف عن تلك التي تحتسب الأصوات في مراكز الاقتراع)، ومخازن آمنة وجديدة لهذه المواد كلها. يتطلب شراء هذه المواد واستعمالها أشهراً طويلة، لذا يُعتبر الوقت عاملاً محورياً.

وحتى في الولايات المعتادة على التصويت عن طريق البريد، قد تبرز الحاجة إلى وضع سياسات جديدة لاحتساب الأصوات بسبب تداعيات فيروس "كوفيد - 19". قد تحتاج الولايات مثلاً إلى إطالة المُهَل النهائية لتقديم الطلبات وإيصال صناديق الاقتراع بسبب إقفال المكاتب الحكومية وتباطؤ نقل البريد ومشاكل أخرى. كذلك، يجب أن يُخصَّص وقت إضافي لاحتساب أعداد مضاعفة من الأصوات. على كل دائرة انتخابية أن تضمن تقييم الأصوات بطريقة منصفة وموحّدة.

ثمة منفعة جانبية محتملة لزيادة أعداد الناخبين عن طريق البريد: سيتراجع عدد الناخبين الذين يصوّتون في أنظمة انتخابية هشة وغير ورقية. لكن يتطلب الحفاظ على هذه الطريقة خططاً مسبقة وتمويلاً كبيراً. تحتاج الولايات إلى تكنولوجيا تسمح للناخبين بتبرير غيابهم عن التصويت عبر الهاتف أو الإنترنت، وإلى برمجيات لتعقب الاقتراع والتأكد من وصول الأصوات إلى وجهتها الصحيحة في الوقت المناسب. كذلك، يجب أن تُوزَّع الصناديق في المواقع التي يسهل الوصول إليها كي يصوّت فيها الناخبون الذين يعجزون أو لا يريدون الاتكال على مكاتب البريد.

إنتخابات مفتوحة

رغم أهمية توسيع نطاق استعمال البريد في الانتخابات الأميركية، لا يمكن أن يصبح البريد بديلاً عن التصويت المباشر بحلول تشرين الثاني المقبل. احتاجت الولايات الخمس التي تستعمل الاقتراع عبر البريد إلى سنوات لتحقيق هذا الهدف. يرمي خيار التصويت عبر البريد إلى تقليص الحاجة إلى الاقتراع شخصياً. ويعني تكثيف التصويت عبر البريد تراجع درجة الاكتظاظ في المواقع الانتخابية، لكن لن يلغي هذا الخيار مراكز الاقتراع بالكامل.

كذلك، لن يكون التصويت عبر البريد خياراً عملياً للجميع، لا سيما من لا يستطيعون الاستفادة من خدمات الإنترنت أو البريد لتقديم الطلبات أو تلقي بطاقات الاقتراع، والمقيمين في مجتمعات الأميركيين الأصليين، ومن يحتاجون إلى مساعدة لغوية للتصويت، والمصابين بإعاقات ويتكلون على آلات الاقتراع للتصويت بطريقة مستقلة وفردية. قد تُحرَم هذه الفئات وغيرها من حق التصويت في حال إغلاق جميع مراكز الاقتراع. لا أحد يعرف ما سيكون عليه فيروس "كوفيد - 19" في تشرين الثاني المقبل، لكن يجب أن تستعد الولايات والدوائر لإدارة مراكز الاقتراع بما يتماشى مع مخاوف الصحة العامة.

ثمة سبب آخر لإبقاء مراكز الاقتراع مفتوحة. أثبت الخلل الناشئ بعد المؤتمرات الحزبية في أيوا أن أي نظام يُستعمَل للمرة الأولى يترافق حتماً مع مجموعة من الإخفاقات. لذا سيؤدي الانتقال إلى نظام جديد بالكامل، بدل تعديل النظام الحالي ولو بطرقٍ استثنائية، إلى زيادة الأعطال المحتملة وتوسّع تداعياتها. يجب أن تجري الولايات المتحدة الانتخابات بالطرق المألوفة لعشرات ملايين الناخبين والمشرفين على الانتخابات طالما تستطيع فعل ذلك.

لكن يتطلب الحفاظ على مراكز اقتراع آمنة تخطيطاً مسبقاً. سبق وسمحت ولايات معينة ببدء التصويت المبكر قبل 14 يوماً من موعد الانتخابات على الأقل. من خلال إطالة هذه المهلة ونشر هذه المقاربة في 23 ولاية لم تفرض التصويت المبكر بعد، يمكن إبقاء زحمة الناخبين تحت السيطرة. وحفاظاً على كامل الموظفين خلال الاقتراع، حتى لو مرض عدد منهم، يتعين على الولايات أن توظّف عاملين من فئات عمرية متنوعة. يجب أن يتكل المشرفون على الانتخابات على الخبرة التي اكتسبها الكثيرون خلال المراحل التمهيدية في مجال تعقيم مراكز الاقتراع وتعديلها، حرصاً على التباعد الاجتماعي بين الناس وتغيير مواقعها عند الحاجة للابتعاد عن الجماعات السكانية الأكثر ضعفاً. قد يكون انتشار فيروس كورونا كفيلاً بالقضاء على انتخابات العام 2020 ما لم تُفرَض تدابير مبكرة لحماية هذا الاستحقاق. يجب أن يقوم الكونغرس والسلطات الانتخابية في أنحاء البلد بتحضيرات عاجلة منذ الآن. لا يمكن أن تصبح لامركزية النظام الانتخابي الأميركي عذراً للتخلي عن أي ناخب. سيكون تأمين التمويل اللازم تدبيراً بسيطاً مقارنةً بحجم المشكلة المطروحة، وتحتاج الولايات المتحدة إلى القيام بهذا الاستثمار حفاظاً على ديموقراطيتها!


MISS 3