"فورين بوليسي": محاسبة سلامة... خطوة لا بدّ منها لخرق جدار الفساد اللبناني

02 : 00

لأكثر من ثلاث سنوات، واصل اللبنانيون تنظيم احتجاجات متفرقة وسط أزمة اقتصادية حادة، ووجهوا غضبهم إلى النخبة السياسية في البلاد. ومن أبرز الأهداف رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان. وظهر على الملصقات في التظاهرات في جميع أنحاء البلاد بانتظام وجه سلامة، سواء ملطخاً ببصمة يد مضرجة بالدماء أو مصورة في صورة وهمية. الرسالة واضحة: المحتجون اللبنانيون يريدون إخراج سلامة من الحاكمية ومحاسبته.

يواجه سلامة كما جاء امس في تحليل نشر على موقع Foreign policy احتمال السجن. في 16 أيار، أصدرت فرنسا مذكرة توقيف بحق سلامة بسبب عدم مثوله للاستجواب أمام محققين في باريس. وأطلقت البلاد تحقيقاً مع سلامة ورفاقه بسبب غسيل مزعوم لأكثر من 330 مليون دولار من الأموال العامة اللبنانية جيرت للاستخدام الشخصي، بما في ذلك شراء عقارات فاخرة في أوروبا. في الأسبوع التالي، أصدرت ألمانيا مذكرة اعتقال خاصة بها، ونفى سلامة ارتكاب أي مخالفة. وجاء في تحقيق "فورين بوليسي" أن محاسبة سلامة... خطوة لا بد منها لخرق جدار الفساد اللبناني"، وأضاف التحقيق ما يلي:

نقطة تحوّل بالنسبة للبنان والتغيير فيه

رغم أن لبنان لا يسلم مواطنيه، فإن التحقيقات في جرائم سلامة المزعومة- بما في ذلك الاختلاس وغسيل الأموال والإثراء غير المشروع والتهرب الضريبي- الجارية في لبنان وست دول أوروبية قد تمثل نقطة تحول بالنسبة الى لبنان. لسنوات عدة، شعر الكثير من اللبنانيين باليأس من المستنقع السياسي والاقتصادي في البلاد. عملياً، لم يواجه أحد من النخبة اللبنانية أي تداعيات على دوره في الأزمة وتأثيرها المدمر على الشعب اللبناني. لكن هذه التحقيقات قد تحقق، لأول مرة منذ سنوات بعض المساءلة بالنسبة الى العديد من اللبنانيين، هذه علامة صغيرة على أن التغيير قد يأتي.

نادر: سياسته النقدية أدت الى الأزمة

لعب سلامة دوراً مركزياً في انهيار النظام المالي اللبناني. وقال سامي نادر، مدير معهد المشرق للشؤون الاستراتيجية: "إنه معدّ السياسة النقدية التي تم وضعها والتي أدت إلى أزمة مالية عميقة".

وكانت أزمة لبنان المالية تصاعدت على مدى سنوات. في العام 1997 ربطت الدولة عملتها بالدولار الأميركي بسعر ثابت عند 1507 ليرات للدولار. في البداية، استقر ربط العملة بالدولار الأميركي. ولكن مع مرور الوقت، أدى ذلك إلى المبالغة في تقييم الليرة اللبنانية. خصوصاً بعد تراجع تدفقات الدولار والتوتر الأمني والجيوسياسي وتراجع الاستثمارات الاجنبية وتحويلات المغتربين.

هندسات مالية عادت بالنفع على المصرفيّين

ولتحقيق استمرار استقرار الليرة اللبنانية نفذ سلامة "الهندسات المالية" في 2016، وهي مجموعة من السياسات التي ضمنت للبنوك عائداً مرتفعاً لتأمين الدولار لزوم احتياطيات لدى مصرف لبنان. ووصف الاقتصاديون وحتى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون محاولات البلاد لجمع الدولارات بأنها مخطط بونزي. في غضون ذلك، على الرغم من تحذيرات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، واصل البنك المركزي اللبناني تمويل الإنفاق الحكومي السخي.

وقال نادر: "المؤسسات السياسية والمصرفية اللبنانية عملت معاً لتنفيذ سياسات تعود بالنفع على نفسها في المقام الأول". وعلى النقيض من ذلك، فإن اللبنانيين العاديين أصبحوا أكثر فقراً. أخيراً، أشعلت ضريبة مقترحة على مكالمات WhatsApp الاحتجاجات الجماهيرية التي بدأت في تشرين الأول 2019. سئم اللبنانيون من الحكومة والبنوك ونخب رجال الأعمال. رغم أن سلامة لم يكن متورطاً في القرار الضريبي المذكور، إلا أن المتظاهرين اعتبروه جزءاً من الفساد الذي تسبب في الانهيار الاقتصادي.

بدارو: المصرفيون والسياسيون و"المركزي" شبكة واحدة

وقال الخبير الاقتصادي روي بدارو: "السياسيون والمصرفيون والبنك المركزي هم جزء من شبكة يعرفون ويتواصلون فيها مع بعضهم البعض". وتم تفصيل الروابط الوثيقة بين السياسيين والقطاع المصرفي في لبنان في بيان صدر عام 2021 عن أوليفييه دي شوتر، المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان. لم تبدأ المشاكل القانونية التي يواجهها سلامة في الخارج إلا في كانون الثاني 2021، عندما طلبت سويسرا المساعدة القانونية من لبنان للنظر في التحويلات المصرفية التي تمت بين عامي 2002 و 2015 من قبل سلامة وشقيقه رجا وشريكتهما ماريان الحويك. منذ ذلك الحين، كانت سويسرا تحقق مع سلامة في مزاعم اختلاس أموال عامة من خلال شركة Forry Associates Ltd - وهي شركة مملوكة لشقيقه عملت كوسيط للبنك المركزي اللبناني.

وأدى التحقيق السويسري إلى قيام دول أخرى في أوروبا مثل بلجيكا وفرنسا وألمانيا وليختنشتاين ولوكسمبورغ بالتحقيق مع سلامة أيضاً. في آذار 2022، جمدت الدول الأوروبية نحو 130 مليون دولار من الأصول اللبنانية المرتبطة بالتحقيقات. في حالة إدانته، قد يواجه سلامة عقوبة تصل إلى السجن لمدة تصل إلى 10 سنوات ومصادرة أصوله في أوروبا.


البداية انطلقت من التحقيقات السويسرية

بعد أن طلبت سويسرا تعاونها، فتحت السلطات اللبنانية تحقيقها الخاص، بدءاً من تحقيق أولي لمدة 18 شهراً أجراه القاضي اللبناني جان طنوس في عام 2021، وفي العام نفسه، بدأت القاضية اللبنانية غادة عون تحقيقاً منفصلاً. بعد ذلك، في شباط الماضي، وجه القاضي اللبناني رجاء حاموش تهمة الفساد إلى الأخوين سلامة والحويك. وفي آذار، رفعت الدولة اللبنانية، ممثلة بالقاضية هيلانة اسكندر، شكوى ضد الأخوين سلامة بتهمة الرشوة والاحتيال وغسيل الأموال والاختلاس والتهرب الضريبي. وتهدف الشكوى إلى نقل أي ممتلكات مصادرة في الخارج إلى لبنان في حال إدانة سلامة في أوروبا وحماية حقوق لبنان. ويتعاون القضاة الأوروبيون واللبنانيون بما يتماشى مع المساعدة القانونية المتبادلة التي أقرتها اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لجمع وتبادل المعلومات.

واكيم: يُدرك المحقّقون أن شبكة الفساد كبيرة

وقالت المحامية زينة واكيم إن استخدام سلامة المزعوم للأموال العامة هو مجرد غيض من فيض. وقالت: "يدرك المحققون الأوروبيون الآن وجود شبكة فساد أكبر". ووجهت إلى سلامة تهمة غسيل الأموال بشكل مشدد، ما يعني أن شبكة محترفة من المجرمين متورطة في الاختلاس. رغم أن التحقيق يركز حالياً على سلامة، يمكننا أن نرى أنه بدأ ينتشر إلى سياسيين آخرين في لبنان". بالفعل، في نيسان، أعلن المدعون الفرنسيون أنهم فتحوا تحقيقاً رسمياً مع مروان خير الدين، مصرفي لبناني ووزير سابق يرأس بنك الموارد اللبناني. يشتبه في أنه سمح لسلامة بتحويلات أموال من خلال البنك.

لا يمكن للبنان تجاهل الضغط الدولي

وأظهرت التحقيقات الأوروبية أن شخصيات مثل سلامة لم تعد شخصاً لا يمكن المسّ به. منذ الانهيار المالي، حارب اللبنانيون، من دون جدوى في الغالب، لمحاسبة من هم في السلطة. الآن، قد تكون العدالة- مهما كانت محدودة- ممكنة أخيراً في لبنان.

حتى النخبة اللبنانية تعلم أنها لا تستطيع تجاهل الضغط الدولي بالكامل. لبنان لا يسلم رعاياه، لذلك من غير المرجح أن يتم اعتقال سلامة في أوروبا، لكن الضغط الداخلي عليه للاستقالة يتصاعد. وفي لبنان، دعا نائب رئيس الوزراء سعد الشامي، ونائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب، وزعيم "حزب الله" حسن نصرالله، إلى جانب عدد من الوزراء والنواب، سلامة إلى الاستقالة.

الطبقة السياسيّة في مأزق

مأزق غريب للطبقة السياسية اللبنانية التي دعمت سلامة لعقود. من المحتمل أن تكون النخب اللبنانية حذرة من الانقلاب على سلامة، لأنه قد يكشف عن معلومات حول النخب الأخرى المتورطة في الانهيار الاقتصادي. لكن في الوقت نفسه، يعرفون أن عليهم اتخاذ إجراءات ضد سلامة لتعزيز سمعة لبنان في المجتمع الدولي، خاصة وسط المحادثات الجارية بشأن حزمة الإنقاذ مع صندوق النقد الدولي. كما قال شامي لوكالة "أسوشيتيد برس"، فإن المزاعم ضد سلامة "يمكن أن تهدد العلاقات المالية للبلاد مع بقية العالم".

من جانبه قال سلامة إنه لن يستقيل إلا قبل نهاية فترة ولايته في حالة إدانته. ولكن حتى لو لم يحدث ذلك، فإن التحقيقات قد أحدثت بالفعل تلميحاً للتغيير. في شباط، قال سلامة إنه سيتنحى عن منصبه في نهاية فترته الحالية في تموز.

القضاء اللبناني متّهم بعجزه أمام التدخّل السياسي

في غضون ذلك، قد يكون للتحقيقات اللبنانية تأثير أقل. إذ لطالما واجه القضاء اللبناني اتهامات بالتدخل السياسي. على مدى أشهر، واجه المحققون حواجز على الطرق، بلغت ذروتها في قرار مجلس القضاء التأديبي في ايار بإقالة القاضية عون من منصبها، وهي وجهت تهماً إلى سلامة وشخصيات سياسية لبنانية أخرى ومصارف تجارية. وقالت عون لـ"رويترز" إن مجلس التأديب اتهمها بالتحيز بسبب تصريحاتها بشأن مسؤولين فاسدين.

واستأنفت عون القرار وستحتفظ بمنصبها حتى صدور حكم نهائي. في غضون ذلك، وجهت اتهامات جديدة بالثراء غير المشروع إلى سلامة وزوجته ندى كرم والممثلة ستيفاني صليبا. كما قدمت شكوى الشهر الماضي ضد بنك لبنان والخليج.

ومهما كانت نتائج التحقيقات، فإن وجودها في حد ذاته يرمز إلى فرصة لتحدي نظام الإفلات من العقاب الذي يحمي النخب اللبنانية مع تسليط الضوء على العيوب الموجودة في نظام العدالة في البلاد. كما قال بدارو: "نحن بحاجة إلى إعادة النظر في ماضينا لبناء دولة صلبة وضمان عدم الإفلات من العقاب في المستقبل، بما في ذلك جميع الجهات الفاعلة في مخطط الفساد". قد تكون التحقيقات هي الخطوة الأولى للقيام بذلك.


MISS 3