المطران عودة: نأمل أن يتوصّل النوّاب في الجلسة المقبلة الى انتخاب رئيس

13 : 36

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأورثوذكس المطران الياس عودة خدمة القداس الإلهي في كاتدرائية القديس جاورجيوس.

بعد قراءة الإنجيل المقدس ألقى عظة انتقد فيها الأنانية المستشرية في البلاد، وتمنى أن يعود النواب إلى ضميرِهم ويَتَوصَّلوا في الجلسةِ القادمةِ إلى انتخابِ رئيسٍ للبلاد، متمنّياً أن تَجري الجلسةُ بهدوءٍ وديمقراطيةٍ ومسؤولية، وبلا أيِّ تحدٍّ أو انتهازيةٍ أو تَعطيلٍ أو تَهديد على أن "نُهَنِّئْ جميعُنا الفائزَ ونَبدأْ مرحلةً جديدةً عنوانُها العملُ والإنقاذ".


وجاء في عظة المطران عودة: "أحبَّائي، نُعَيِّدُ اليَومَ، في الأَحَدِ الَّذي يَلي عيدَ العَنصَرَة، عيدًا جامِعًا لِجَميعِ القِدِّيسين، وهو لا يَشمُلُ الأَشخاصَ الَّذينَ نَقرَأُ أَسماءَهُم في كُتُبِ سِيَرِ القِدِّيسينَ فَقَط بل يَخُصُّ جَميعَ الَّذينَ عاشوا على هَذِهِ الأَرْضِ عِيشَةً مُقَدَّسَةً، حافِظينَ نُفوسَهُم وأَجسادَهُم مِنْ كُلِّ حِيَلِ الشِّرّير، سائِرينَ حَسَبَ وَصايا الرَّبِّ وعامِلينَ بِها. هَؤلاءِ مَوجودونَ في كُلِّ مَنزِلٍ أو عائِلَةٍ، وقد مَرُّوا في أَرضِنا، ولا يَزالون، بِخَفَرٍ وَاتِّضاعٍ، فَفاحَ شَذى عَرْفِ سِيرَتِهِم، لَكِنَّنا لَمْ نَلْتَقِطْهُ بِسَبَبِ غَرَقِنا في الاهْتماماتِ الدُّنيَوِيَّة، فَظَلَّ كَثيرونَ مِنْهُمْ مَجهولِينَ هُنا، إِلَّا أَنَّهم يَتَمَتَّعونَ بِعِيشَةٍ سَماوِيَّةٍ مَمْسوحةٍ بدُهنِ النَّقاوَةِ والقَداسَةِ.


الإِنْسانُ يُصْبِحُ إِناءً مُتَقَبِّلًا للقَداسَة عِنْدَما تَشتَعِلُ نارُ النِّعْمَةِ الإِلَهِيَّةِ في قَلْبِهِ بِقُوَّةِ الرُّوحِ القُدُس. يَقولُ القِدِّيسُ باسيليوسُ الكَبير إِنَّ هُناكَ «احْتِراقًا حَقيقيًّا للرُّوحِ يُضيءُ القَلْب». هَذا الاحْتِراقُ الَّذي يُضيءُ النُّفوسَ ويُبيدُ الشَّوكَ والبَقايا بَعْدَ الحَصادِ، كانَ ناشِطًا في الرُّسُلِ الَّذينَ تَكَلَّموا بِأَلْسِنَةٍ نارِيَّة، ولَمَعَ حَوْلَ الرَّسولِ بولُس، وأَضْرَمَ قَلْبَيْ لوقا وكلاوبا... هَذِهِ النَّارُ تُبيدُ الشَّياطينَ، وهِيَ قُوَّةُ القِيامَة، وطاقَةُ عَدَمِ المَوْت، واسْتِنارَةُ النُّفوسِ المُقَدَّسَة.


لقد حَصَلتْ العَنْصَرَةُ مَرَّةً في التَّاريخ، لَكِنَّها تُسْتَعادُ في حَياةِ القِدِّيسين. عِنْدَما يَبْلُغُ المُتَقَدِّسونَ حالَةً مُتَقَدِّمةً مِنَ الحَياةِ الرُّوحِيَّة، يَشْتَرِكونَ في العَنْصَرَة، ويُصبِحونَ رُسُلًا لِلمَسيح. العَنْصَرَةُ هِيَ أَعلى نُقطَةٍ مِنَ التَمَجُّدِ والتَّأَلُّه. كُلُّ الَّذينَ يَسلُكونَ الرِّحْلَةَ نَفْسَها مَعَ الرُّسُلِ يَصِلونَ إلى مُعايَنَةِ الله، ويَشْتَرِكونَ في نِعْمَةِ العَنْصَرَةِ وقُوَّتِها. مِنْ هُنا، نُعَيِّدُ في الأَحَدِ الأَوَّلِ بَعْدَ العَنْصَرَةِ لِثَمَرَةِ الرُّوحِ القُدُس، أَي لِلَّذينَ تَقَدَّسوا بِتَفْعيلِهِم مَواهِبَ الرُّوحِ القُدُسِ في حَياتِهِم. يَقولُ الرَّسول بولُس: «أَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ، فَرَحٌ، سَلامٌ، طُولُ أَناةٍ، لُطْفٌ، صَلاحٌ، إِيمانٌ، وَداعَةٌ، تَعَفُّفٌ... الَّذينَ هُم لِلمَسيحِ قَدْ صَلَبوا الجَسَدَ مَعَ الأَهواءِ والشَّهَوات. إِنْ كُنَّا نَعيشُ بِالرُّوحِ، فَلْنَسْلُكْ أَيْضًا بِحَسَبِ الرُّوح» (غل 5: 2225). تُعَيِّدُ الكَنيسَةُ اليَوْمَ لِكُلِّ مَنْ عَمِلَ في حَياتِهِ على تَثميرِ هَذِهِ الثِّمارِ الرُّوحِيَّةِ، مَعْروفًا كانَ أَوْ مَجهولًا.


نَسمَعُ في القُدَّاسِ الإِلَهِيِّ عِبارَةَ «القُدُساتُ لِلقِدِّيسين»، وهِيَ لا تَخْتَصُّ بِمَنْ سَبَقَ أَنْ أُعْلِنَتْ قَداسَتُهُم، بَل إِنَّها دَعوَةٌ صَريحَةٌ لِجَميعِ أَعضاءِ الكَنيسَةِ، مُمْتَدَّةٌ مُنذُ العَهدِ القَديمِ عِنْدَما قالَ اللهُ لِشَعْبِه: «إِنِّي أَنا الرَّبُّ إِلَهُكُم فَتَتَقَدَّسونَ وتَكونونَ قِدِّيسينَ، لأَنِّي أَنا قُدُّوس» (لا 11: 44؛ 1بط 1: 16). الكَنيسَةُ تُذَكِّرُنا بِدَعوَةِ اللهِ لِشَعْبِهِ إلى القَداسَة. مَنْ أَرادَ أَنْ يَكونَ مِنْ شَعْبِ الله، عَلَيْهِ أَنْ يَكونَ عَلى مِثالِ رَأسِ الشَّعب، والمَسيحُ هُوَ رَأسُ الكَنيسَة (أف 5: 23). لِذا، نَبْدَأُ غَدًا بِصَومٍ آخَر هُوَ صَوْمُ الرُّسُل، لأَنَّهُم أَوائِلُ القِدِّيسين، وأَوَّلُ مَنْ دَعا الآخَرينَ إلى التَقَدُّسِ بِالنِّعْمَةِ الإِلَهِيَّةِ المَمْنوحَةِ مِنَ الرَّبّ. يَقولُ الرَّسولُ بُطْرُس: «نَظيرَ القُدُّوسِ الَّذي دَعاكُم، كونوا أَنْتُم أَيْضًا قِدِّيسينَ في كُلِّ سِيرَة» (1بط 1: 15).


ليستْ مُصادَفَةً بَدْءُ صَوْمِ الرُّسُلِ في اليَوْمِ الثَّامِنِ بَعْدَ العَنْصَرَة. اليَومُ الثَّامِنُ يَرْمُزُ إلى الأُخْرَوِيَّة، وإلى عَيْشِ المَلَكوت. فَفي اليَومِ الثامِنِ بَعْدَ القِيامَةِ جاءَ الرَّبُّ يَسوعُ إلى العلِّيَّةِ حَيثُ كانَ الرُّسُلُ مُجْتَمِعينَ خَوْفًا مِنَ اليَهود. لَكِنَّ الخَوْفَ زالَ عَنهم بَعْدَما حَلَّ الرُّوحُ القُدُسُ عَلَيْهِم، وَانْطَلَقوا مُبَشّرينَ اليَهودَ وسائِرَ الشُّعوبِ بِبُشرَى القِيامَةِ، داعِينَ الجَميعَ إلى التَقَدُّسِ والتَّأَلُّهِ واستِعادَةِ المِثالِ الَّذي خَسِرَهُ الإِنْسانُ مَعَ السُّقوط. اليَوْمُ الثَّامِنُ بَعْدَ العَنْصَرَة، يُشَكِّلُ رَمْزًا لِبِدايَةِ تَحَقُّقِ هَذا التَّأَلُّه، إِذْ عاشَهُ الرُّسُلُ أَوَّلًا، وتَعَلَّمْنا أُسُسَهُ مِنْهُم. لِذَلِكَ، يَنْتَهي صَوْمُ الرُّسُلِ بِعِيدِ الرَّسولَيْنِ الهامَتَيْنِ بُطْرُسَ وبولُس، اللَّذَيْنِ كانا مِثالًا لِلإِنْسانِ الغارِقِ في الخَطيئَةِ. فقد أنكرَ بُطْرُسُ المَسيحَ الَّذي عاشَ مَعَهُ وعايَنَ أَعْمالَهُ الخَلاصِيَّة، وبُولُسُ لَمْ يَألُ جُهْدًا في اضْطِهادِ المَسيحِيِّينَ وقَتْلِهِم وزَجِّهِم في السُّجون، لَكِنَّهُما أَصْبَحا صَخْرَتَيْنَ صَلْدَتَيْنِ بَنى عَلَيْهِما المَسيحُ كَنيسَتَهُ بَيْنَ اليَهودِ كَما بَيْنَ الأُمَم.


كَثيرونَ لا يُكَرِّمونَ القِدِّيسين، ويَنْتَقِدونَ مُكَرِّميهم، خالِطينَ بَيْنَ سُجودِ العِبادَةِ وسُجودِ الإِكْرام، قائِلينَ بِأَنَّ الكَلامَ يَجِبُ أَنْ يَكونَ مُوَجَّهًا إلى اللهِ مُباشَرَةً بِلا وُسَطاء. إنَّ الكَنيسَةَ قائِمَةٌ عَلى الشَّراكَة، عَلى التَّآزُر. القِدِّيسونَ لا يُصَلُّونَ عَنَّا، بَل نحن نُصَلِّي مَعَهُم في شَرِكَةِ الكَنيسَةِ الواحِدَة. هُم يُؤازِرونَنا في حَمْلِ أَثقالِنا وأَوجاعِنا وتَقديمِها لَدى عَرْشِ الرَّبِّ الَّذي يَقِفونَ أَمامَه، مِثْلَما تعاني الأُمُّ أَلَمَ ابْنِها المَريضِ فَتَحْمِلُهُ في صَلاتِها دونَ أَنْ تُصَلِّي عَنْهُ، أَيْ بَدَلًا مِنه. والكَنيسَةُ دائِمَةُ الصَّلاةِ، نُصَلِّي نَحْنُ لمَنْ غادَرونا، وهم يَحْمِلونَنا في صَلاتِهِم أمامَ عَرْشِ الله، وهَكَذا نُحَقِّقُ شَرِكَةَ القِدِّيسين.


يا أَحِبَّة، كَمْ نَحْنُ بِحاجَةٍ في بَلَدِنا إلى التَّآزُرِ والشَّراكَةِ الحَقيقيَّين، اللَّذَين، إِذا تَحَقَّقا، يَجْعَلانِ مِنَ البَلَدِ فِرْدَوسًا أَرْضِيًّا. مُشكِلَةُ البَلَدِ هِيَ الأنا المُسْتَشْرِيَة، الَّتي تَجْعَلُ مِنْ كُلِّ شَخْصٍ، مَسؤولًا كانَ أو مُواطِنًا، يَهْتَمُّ بِمَصالِحِهِ الشَّخْصِيَّةِ فَقَط، مُتَجاهِلًا الآخَرَ ومُنَكِّلًا بِهِ مِنْ دونِ أَيِّ إِحْساسٍ بِالمَسؤولِيَّةِ تُجاهَه. الفَرْدِيَّةُ والقَبَلِيَّةُ في لُبْنانَ وَجْهانِ لِعُمْلَةٍ واحِدَةٍ اسْمُها الأنانِيَّة.


كلٌّ يُريدُ مَصلَحَةَ جَماعَتِهِ، ويَسعى لإيصالِ زَعيمِهِ إلى سُدَّةِ المَسؤولِيَّة، فيما على الجَميعِ أَنْ يُفَكِّروا بِمَصيرِ شَعْبٍ قابِعٍ في ظُلْمَةِ الفَقرِ والذِلِّ والقَهر. نَقْصُ المَحَبَّةِ والتَّآزُرِ جَعَلَ مِنْ بَلَدِنا مَجْموعَةً مِنَ الجَماعاتِ تخافُ بعضُها البعضَ بسببِ انعدامِ الثقةِ تارةً، والشعورِ بالتَفَوُّقِ أو القوَّةِ طوراً، واختلافِ الهَدَفِ في كلِّ حين. فلكلِّ فئةٍ نظرتُها ومَصلحتُها وغايتُها، والوطنُ حقلُ اختبارٍ والمواطنُ الأداة. صلاتُنا الدائمةُ أن يكونَ لبنانُ الغايةَ الوحيدة، وأنْ تكونَ مصلحتُه ودورُه المبتغى، وكرامةُ بنيه وحياتُهم الآمنةُ المُسْتَقِرَّةُ الهدف. لذا أملُنا أن يعودَ النوابُ إلى ضميرِهم ويتأمّلوا في دِقَّةِ المرحلة، وحاجةِ البلدِ القُصوى إلى الإنقاذِ، وأن يَتَوصَّلوا في الجلسةِ القادمةِ إلى انتخابِ رئيسٍ للبلاد يكونُ فاتحةَ الطريقِ إلى الإنقاذ. أملُنا أن تَجري الجلسةُ بهدوءٍ وديمقراطيةٍ ومسؤولية، بحسبِ ما يُمليه دستورُ بلادِنا وحَراجةُ المرحلة، وبلا أيِّ تحدٍّ أو انتهازيةٍ أو تَعطيلٍ أو تَهديد. فَلْتَجْرِ العمليةُ الإنتخابيةُ بحُرِّيّةٍ وديمقراطية، ولْنُهَنِّئْ جميعُنا الفائزَ ونَبدأْ مرحلةً جديدةً عنوانُها العملُ والإنقاذ.


لقد استَذْكَرْنا منذُ أيامٍ كبيراً مِن لبنان غادَرَنا منذ إحدى عشرةَ سنةً لكنّه ما زال حاضراً في عقولِ وقلوبِ الكثيرين. غسان تويني عَشِقَ لبنان وعَمِلَ من أجلِه طيلةَ أيامِ حياتِه. دافعَ عنه بلداً للحريةِ والديمقراطيةِ والإنفتاحِ والتنوُّع. أرادَه بلدَ الفكرِ والإشعاعِ وحريةِ الرأي والكلمة والموقف، فهل يجوزُ جَعْلُه بلدَ الإنعزالِ وكَبْتِ الحُريّاتِ وكَمِّ الأفواه؟ كيفَ تكونُ بيروتُ عاصمةَ الإعلامِ العربي وتَمنعَ دخولَ صحافيةٍ إليه؟ كيفَ يكونُ لبنانُ كما أرادَه غسان تويني وأمثالُه مِنَ الكبار ويَعْصى فيه انتخابُ رئيس؟


إحتراماً لمبادئِ غسان تويني وأمثالِه، ولديمقراطيةِ لبنان ودورِه، على السياسيين وجميعِ المسؤولين أنْ يُحْسِنوا قراءةَ التاريخِ من أجل رَسْمِ المستقبلِ بدقَّةٍ ومسؤولية.


دَعوَتُنا اليَوْمَ أَنْ نَسعى إلى عَيْشِ القَداسَةِ عَبْرَ تَطبيقِ الوَصايا الإِلَهِيَّةِ، وهَذا الأَمْرُ لا يَتَحَقَّقُ مِنْ دونِ التَآزُرِ المُؤَسَّسِ على المَحَبَّةِ والإحْتِرامِ والسَّعيِ إلى خِدْمَةِ كُلِّ مُحتاجٍ بفَرَح. قَدَّسَ اللهُ حَياتَكُم جَميعًا، بِنِعْمَةِ روحِهِ القُدُّوس، آمين".

MISS 3