طارق عينترازي

"هذا الوقت سيمضي" 2/2

7 نيسان 2020

05 : 15

اسمحوا لي ان أروي قصة عشتها خلال حرب التحرير عندما كنت تلميذاً في الجامعة الاميركية في بيروت. أدخلت شقيقتي ذات الثلاث سنوات إلى مستشفى الجامعة بسبب التهاب حاد في الجهاز التنفسي. قرر الأطباء استئصال لوزتيها وزرع أنبوب للأذن الوسطى على ما أذكر. نجحت العملية وأتى وقت إخراجها من المستشفى. المطلوب حوالى خمسمائة دولار هو الفرق الذي لا تغطيه وزارة الصحة. جلست في الغرفة ساهم الوجه، وتعابير العجز والغضب والذل بادية على ملامحي. أتى المرحوم زوج خالتي لزيارتنا ورآني في حالة يرثى لها. قال لي: "طول بالك يا ابني، "الدنيي بتهز وما بتوقع، إلّا ما تتحلحل الأمور".

شجعني كلامه وذهبت إلى مكتب المحاسبة في الجامعة أسألهم، ما العمل والمبلغ غير متوافر منه سوى خمسين دولاراً؟ خصموا جزءاً من المبلغ وأعطوني أسماء جمعيات عدة في رأس بيروت قد تساعد على تأمين المبلغ المتبقي، زرتها جميعاً ولم أوفق. عدت إلى قسم المحاسبة في مستشفى الجامعة وأخبرتهم أنني غير قادر على تأمين المبلغ. عندها نصحني أحدهم بزيارة مركز كنائس الشرق الأوسط الكائن على خطوات قليلة من الجامعة في شارع المكحول بجانب مستشفى خوري.

قلت في نفسي، مركز كنائس الشرق الأوسط في ذروة الحرب الأهلية الطائفية؟! لانعدام الخيارات، مشيت إلى المركز وعندما وصلت كان شبه خالٍ. سألني موظف الاستقبال، "شو عندك؟ أريته فاتورة مستشفى الجامعة من دون أن أقوى على أي تعليق. أدخلني إلى مكتب المدير الذي سألني بضعة اسئلة عن الوضع الاجتماعي لعائلتي والى ما هنالك. فقلت له ببساطة: أنا كبير أخوتي وتلميذ في الجامعة ونحن من مهجري الجبل ولكني غير مسيحي ولن ألومك إذا لم تساعدني بشيء. أجاب: انتظرني في الخارج لو سمحت. خرجت من المكتب متردداً بين الانتظار وعدم تضييع الوقت لأني اعتقدت ان لا أمل يرتجى من مؤسسة كنسية لمساعدة عائلة درزية في أوج حفلات التعايش اللبناني. ما هي إلّا دقائق حتى ناداني المدير. دخلت وتسلمت شيكاً بالمبلغ كاملاً مع ابتسامة خفيفة وكلمة واحدة، سلامتها!

لا أذكر ماذا قلت له. لم أصدق عيني. يا الله المبلغ كامل!!

هرولت إلى المستشفى بغير وعي قبل أن يتم احتساب نهار جديد. أنهيت المعاملات وصعدت إلى الغرفة وقلت لوالدتي التي لم تكن تعلم بقصة الفرق بين المستشفى ووزارة الصحة؛ إنني أنهيت المعاملات وسنخرج من المستشفى.

في الايام التالية كتبت رسالة الى سمير جعجع. أذكر منها اني دعوته الى التقدم نحونا، نحن الفقراء دروزاً كنا ام سنة ام شيعة، كنا وقود هذه الحرب تماماً كما كان فقراء المسيحيين. كنا جميعاً نحلم بوطن يحفظ كرامتنا. لا أذكر باقي الرسالة. ارسلتها الى إذاعة صوت لبنان (تخيلوا ان ارسلها للمجلس الحربي من بريد الجامعة) بدون امضاء خوفاً من ان تعتقلني مخابرات جيش الاحتلال السوري بتهمة العمالة لإسرائيل.

عندما سافرت الى دبي وضعت صورة نشرتها احدى الصحف ليوم زفاف سمير جعجع على باب غرفتي.. وضعتها نكاية بالحرب الاهلية وبمن صوروا لنا ان هناك عدواً لنا على المقلب الآخر للوطن. اثنان وثلاثون عاماً وأنا أذكر ذاك النهار. أذكر أن مؤسسة لا أعلم من يمولها ورجلاً لا أعرف اسمه علّمني درساً في الدين والعطاء والإنسانية لن أنساه. أذكر أن كل خطابات الأحزاب وادعاء البطولات والتحرير والإلغاء والوحدة لا تساوي دقيقة واحدة من ذل العجز عن تأمين طبابة لوالدة أو ابنة أو شقيقة.

هذا الوقت مضى وتعلمت أن لا خلاص من هذا الذل غير العلم والعلم والعلم والعمل ثم العمل ثم العمل..

لذلك، هذا الوقت سيمضي ولتمضِ معه خطابات الكرامة والعزة والانتصارات المزعومة.. انتصارات لم تطعم جائعاً ولن تقي شبابنا وشاباتنا ذل البطالة وذل عدم قدرتهم على إيفاء أهلهم العجزة حقهم بحياة كريمة في خريف العمر.


MISS 3