نشرت «الشرق» في 14 الجاري مقالاً للصديق الدكتور مروان اسكندر بعنوان «فاقعة أسست للانهيار النقدي والمصرفي»، خصصه للتعليق على ما ذكرته في 12 الجاري في مقال نشرته نداء الوطن بعنوان «28 مخالفة فاقعة أسّست للإنهيار النقدي والمصرفي... وفاقمت تداعياته». بخصوص تعليق الدكتور اسكندر يمكن تسجيل التالي:
التبس عليه الأمر
(اولاً) بداية يبدو انه التبس على الدكتور اسكندر ان ما قمت بتشييده ليس فندقاً امضي الوقت بادارته، بل هو دار لسكن العائلة ويمكنه التحقق من ذلك بزيارة شخصية للمقر. ويبدو ان ما اوقعه باللبس المنحوتات التي تزينه خارجياً وداخلياً، وهي نسخ طبق الاصل من معالم اثرية اوروبية قمت بتصنيعها شخصياً وبمساعدة عاملين اثنين طوال عقدين من الزمن بتقنيات تلقنتها في بلجيكا. فبات الدار يعج بالزوار على مدار السنة للاطلاع عليها ولاقامة عدد من النشاطات في حديقة الدار باشراف زوجتي مثل حفلات الاعراس او اعداد البومات الصور التذكارية بمناسبة الخطبة او الزواج واقامة عروض الازياء وتصوير فيديوات كليب او مسلسلات تلفزيونية ووثائقية وغيره... كما تزورنا من وقت لآخر وفود جامعية للاستفسار عن تقنيات اعداد الـ moulures والتماثيل وتذهيبها.
السياسات التسهيلية وغير التقليدية
(ثانياً) ايضا يومئ الدكتور اسكندر في مقاله الى انني غدوت بعيداً عن التطورات الحاصلة في عالم المصارف المركزية بعد تركي العمل، على الاخص عن توجهات سياسات التمويل المتساهلة التي اعتمدها كل من الـ FED والـ ECB لتجاوز ازمة الرهونات العقارية لعام 2008 وادت الى تضخم ميزانيتهما وذلك ليبرر ضمنياً تضخم ميزانية مصرف لبنان على وجه غير مألوف. بخصوص ما سبق يمكن التعليق بالتالي:
أ- ان السياسات غير التقليدية والتوسعية التي اومأ اليها الدكتور اسكندر على انها من مظاهر التطور في نشاطات المصارف المركزية في العقد الاخير، والتي انعكست تضخماً في ميزانية الـ FED والـ ECB تختلف كلياً عما حصل في لبنان وادى الى تضخم ميزانية مصرفه المركزي. فالاولى كانت توسعاً بالتمويل بالعملة الوطنية اي بالدولار واليورو، والثانية كانت توسعاً في التمويل والانفاق بعملة اجنبية هي الدولار تم استقطابها من قبل مصرف لبنان من المصارف بواسطة «شهادات ايداع» و»توظيفات الزامية» وغيره، ولا يملك مصرف لبنان قانوناً اصدار الاولى او الالزام بها بالثانية حسب النص الصريح لقانون النقد والتسليف.
ب- ايضا السياسات التسهيلية غيرالتقليدية Quantitative Easing - QE للـ FED و الـ ECB كانت مؤقتة وضمن حدود القانون، وافضل من عبر عن الامر الاخير حاكم الـ ECB السابق السيد Mario Draghi عندما قال كلمته الشهيرة «ان مصرفه مستعد للقيام باي شيء للتصدي لأزمة اليورو» اذ استلحق كلامه بالقول بالتأكيد ضمن القانون. وقد قامت كل من المحكمة الدستورية الالمانية ومحكمة العدل الاوروبية في اللوكسمبورغ بتحقيقات صارمة بخصوص برامج شراء الـ ECB للسندات للتحقق من ان تصرّف الاخير لا يعكس انغماساً مقنعاً لتمويله حكومات اوروبية، وهو امر تحرمه بحزم اتفاقية الاتحاد الاوروبي وشرعة الـECB...اما مصرف لبنان فقد اعتمد بالعكس وكما ذكرت في مقالي لسنوات طوال آليات غير قانونية لاستقطاب ودائع المصارف بالعملات الاجنبية توطئة لانفاقها لاحقاً، وايضاً خلافاً للقانون بدعم سعر صرف زائف غير محدد اصولاً وتبديدها في تمويل احتياجات قطاع عام فاسد بشهادة القيمين عليه ومراجع اجنبية ودولية مرموقة.
ج- ان من اهم افرازات التطورات المالية والمصرفية والنقدية التي حصلت خلال العقدين الماضيين وضع المصارف المركزية في قفص الاتهام عند حصول الازمات، على حد تعبير البروفسور Barry Eichengreen في مقاله Central Banks in the Dock. وقد كان لي شخصياً مساهمة بالموضوع فكتبت بحثاً عن الانحرافات القانونية التي اسست لازمة الرهونات العقارية الاميركية تناولت فيها جميع المسؤوليات: المصارف والمؤسسات المالية التي اعتمدت اصدار صكوك التسنيد العقارية وتسويقها ومسؤولية الـ FED والـ ECB والمصارف المركزية الاوروبية وهيئات الرقابة المصرفية ومؤسسات التقييم وشركات التأمين ومفوضي المراقبة.
حكام تصدوا لضغوطات شتّى
(ثالثاً) يذكر الدكتور اسكندر ان السياسة النقدية تعرضت للشلل ايام حكومة الرئيس لحود بسبب الانفلاش المالي والضغوطات التي تعرضت لها هذه السياسة. كلام لا يستقيم في ظل التوجهات الحديثة في اداء المصارف المركزية والتي يومئ الدكتور اسكندر الى انه من المتابعين لها. فالتاريخ يسجل باعتزاز تصدي العديد من حكام المصارف المركزية منذ بداية القرن الماضي لضغوطات شتى من قبل سلطات بلدانهم لغايات عديدة على الاخص الحصول على التمويل القسري من مصارفهم. امثال الفرنسي Émile Moreau الذي تشبث برفض تقديم قرض بـ 400 مليون دولار لحكومة الرئيس Clemenceau والالماني Schacht الذي كان الوحيد الذي تجاسر علناً على مخالفة توجهات Hitler في مسألة التضييق على اليهود ومسالة ضم النمسا وتوحيد عملتيهما والاميركيين Volker صاحب القول الشهير «عندما اكون في وسط الحلبة اي في الاحتياطي الفدرالي فمن غير المسموح لاي كان ادخال ولو قدم واحدة اليها» و Powel الذي اقر الرئيس Trump بانه بات مصدر صداع له اكثر من الصين بالرغم من انه هو من عيّن Powel في حاكمية الاحتياطي الفدرالي.
إدمون نعيم أفضل مثال
في لبنان تسجل للدكتور نعيم وقفات مشرفة عديدة امام ضغوطات السلطة للحصول على التمويل القسري من مصرف لبنان احداها عرضته للاعتداء الجسدي، واخرى تصدى فيها لاستخدام السلطة المجلس النيابي لتمرير قانون يطالب مصرف لبنان بتقديم تمويل بعدة مليارات لحكومة الرئيس امين الجميل. وقد اصر عندها الدكتور نعيم وفور اذاعة وزير المالية جوزيف الهاشم الخبر من على درج قصر منصور امام المتحف الى المسارعة لصياغة نص بيان ارسله الى الوكالة الوطنية للاعلام، ليتم تناقله لاحقاً مع خبر اقرار المجلس النيابي قانون الاستقراض من مصرف لبنان. وقد تضمن بيان الحاكم ان مصرف لبنان هو شخص معنوي يتمتع بالاستقلال المالي حسب المادة 13 من قانون النقد والتسليف، وعليه لا يجوز ابداً لاي سلطة الزامه بالتصرف بنحو معين بامواله. وهو مستعد للنظر لتقديم التمويل الذي تطلبه الحكومة في حال توافر شروط المادتين 91 و95 اي في حالة الظروف الاستثنائية او الضرورة القصوى مقابل التدابير التي يراها مناسبة وفي اطار عقد يتم توقيعه ويوافق عليه المجلس النيابي.
يبقى ان ابلغ ما قيل في الموضوع واكثره تعبيراً كلمة وردت في نهاية تأبين Jürgen Stark للحاكم الالماني Hans Tietmeyer بعد الدفن، وقال فيها ان خبراتك ومزاياك العديدة ( يا ايها الراحل) توجت بشجاعتك في قول «لا»عند اللزوم لقوى الضغط العامة والخاصة.
تضخم صلاحيات الحاكم
(رابعاً) يذكر الدكتور اسكندر ان محاولات عدة جرت لتقليص دورالمصرف المركزي اذ تأسست مؤسسات للصيرفة وجمعية القرض الحسن من دون ان تكون خاضعة له، كما تم تصدير المحروقات المستوردة الى ما وراء الحدود الى سوريا.
كلام غير دقيق، فالتعديلات القانونية التي طرأت خلال العقود الثلاثة الماضية ادت الى تضخم وتركيز صلاحيات متنوعة ومتناقضة بيد الحاكم اثبتت الظروف الراهنة سلبياتها لا بل خطورتها. فهي جمعت بيد واحدة صلاحية التقرير والتنفيذ وتسيير الامور العامة والرقابة الداخلية والحكم والتحقيق. امر يذكر بموقف المدير السابق لصندوق النقد الدولي Stainly Fisher الذي استدعته اسرائيل ابان ازمة الشيكل ومنحته الجنسية الاسرائيلية لتولي قيادة مصرفها المركزي. فكان من اول واهم الامور التي طالب بها الحكومة بعد توليه منصبه بخمسة اشهر تدخل الكنيست العاجل لتعديل قانون المصرف على وجه تقلص فيه صلاحياته كحاكم بشكل ملحوظ (ودائرتها اضيق بكثير من دائرة صلاحية حاكم مصرف لبنان) ويعاد توزيعها بشكل متقابل يخضع لرقابتين داخلية وخارجية مستقلتين.
في ما خص القرض الحسن
جدير بالذكر في ما خص جمعية القرض الحسن ان المادة 200 من قانون النقد والتسليف تنص على تعرض من يتخلف عن تقديم التصريح المطلوب بموجب المادة 184 التي تحكم المؤسسات التي تمارس نشاطات شبيهة لنشاط الجمعية المذكورة للعقوبات المنصوص عليها في المادة 655 عقوبات والذي يحرك الادعاء هي النيابة العامة بمجرد طلب من الحاكم بمقتضى المادة 206 من قانون النقد والتسليف.
غير ملزم بتمويل الدولة
اما في ما خص التحويلات التي يذكر الدكتور اسكندر انها طلبت من مصرف لبنان، فقد سبقت الاشارة في المقال الى ان مصرف لبنان غير ملزم الا بما تنص عليه المادة 85 من قانون النقد والتسليف اي تحويل الاموال التي يطلبها منه القطاع العام حتى قيمة موجودات هذا الاخير لديه علماً ان الحاكم السابق الدكتور نعيم كان يشترط تنفيذ المدفوعات للدولة والقطاع العام والممولة من مصرف لبنان على اقساط بحيث تتولى لجنة خاصة التدقيق بسلامة انفاق القسط السابق قبل دفع القسط اللاحق.
(خامساً) واخيراً وهو الاهم والمستغرب ان تعليق الدكتور اسكندر لم يتعرض البتة لاي من التفصيلات التي اوردتها في مقالي عن التجاوزات والمخالفات لقانون النقد والتسليف التي حصلت وكانت في اساس اندلاع الازمة و تفاقمها.
(*) استاذ محاضر في قوانين النقد والمصارف المركزية