يوسف مرتضى

بوتين - بريغوجين: مسرحيّة أم انفجار فاحتواء؟

27 حزيران 2023

02 : 01

روسيا التي تعاني حصاراً اقتصادياً ومالياً غربياً، وتخوض لسنة وأربعة أشهر غمار حرب استنزاف مرهقة في مواجهة الآلة العسكرية لحلف شمال الأطلسي في الميدان الأوكراني، حبس شعبها أنفاسه وأخلى شوارع العاصمة موسكو وعدة مدن أخرى، خصوصاً روستوف وفورونيج اللتين سيطرت عليهما ميليشيا «فاغنر» بزعامة يفغيني بريغوجن، حيث لاحت في الأفق إشارات تصادم عسكري شبه محتّمة بين مرتزقة بريغوجين الذي هدد بالعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو ورئيس أركانه فاليري غيراسيموف، ودفع بوحدة قتالية من قواته قوامها خمسة آلاف مقاتل باتجاه موسكو بنية اعتقالهما.

وكان لافتاً بتصريحات بريغوجين تأكيد ولائه للرئيس فلاديمير بوتين ولروسيا، وحدد خصومته بوزير الدفاع ورئيس أركانه حصراً، ورغم العلاقة الخاصة والمميّزة التي تجمعه ببريغوجين، أقدم بوتين على إعلان تجريم بريغوجين ووصف حركته بالتمرّد العسكري وخيانة عظمى للشعب والوطن. ونظّم فيه ملفاً قضائياً جنائياً تصل عقوبته إلى ثلاثين سنة سجن.

الشعب الروسي بأجياله المختلفة يعرف تاريخه جيداً وما عاشه من احتمال مواجهة بين قوات «فاغنر» والجيش الروسي خلال 24 ساعة بين يومي 23-24 حزيران، استحضر في ذاكرتهم ويلات ومآسي الحرب الأهلية التي اندلعت في روسيا إثر ثورة 1917 بين جيش البلاشفة «الأحمر» وجيش القيصر «الأبيض» والتي امتدت لسنوات وذهب ضحيتها الملايين من القتلى.

وفي خارج روسيا، انشغلت دوائر القرار في الدول الصديقة والحليفة لروسيا وكذلك الدول المعادية للإدارة الروسية أو المتنافسة معها، في متابعة الحدث المفاجئ المتمثّل بتمرّد القوة القتالية التي تحتل موقعاً متميزاً في العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، مع انتظارات متناقضة للصديق والعدو لمسار هذا التمرد ونتيجته على مستقبل الدور الروسي وبوتين فيه.

وبدون أدنى شك كانت النتيجة التي انتهت إليها حالة التمرد بعد ساعات على انطلاقها صادمة للعدو الميداني الأوكراني، ومفاجئة مع التباسات في التفسير لخصوم القيادة الروسية، وتركت ارتياحاً عند حلفاء روسيا وأصدقائها، وترحيباً شعبياً روسياً عارماً، حيث نجت روسيا من كارثة حرب أهلية كان يمكن أن تؤدي إلى تفكيك الإتحاد الروسي، وهو هدف الغرب وتحديداً الولايات المتحدة، الذي طالما حذّر منه بوتين.

العديد من المراقبين قرأوا بنتيجة وساطة رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو بين بوتين وبريغوجين، احتمال أن يكون تمرد هذا الأخير مسرحية متفق عليها مسبقاً مع الرئيس الروسي. ومع استبعادي لمثل هذا الاحتمال وفق معطيات مستقاة من مصادر روسية مطّلعة، لا بد من الإقرار بحنكة وحكمة بوتين الذي غلّب مصلحة روسيا وجنّبها كارثة حرب أهلية على عنفوانه وهيبته الشخصية، التي بدون شك أصابها تمرّد صديقه بريغوجين بضربة موجعة نالت من مقام القيصر، وهزّت الثقة بالنظام الروسي وبوحدة مؤسّسته العسكرية.

لماذا أقدم بريغوجين على التمرد في هذه اللحظة، ولماذا اختار بوتين المهادنة والتنازل على الانتقام والتصادم؟ إن بريغوجين تربطه علاقة صداقة متينة وحميمة مع بوتين، وهو المعروف «بطباخ بوتين». ونتيجة قربه منه وتفرّده بخصائص مميزية كلّفه بوتين عام 2014 بتأسيس مجموعة «فاغنر» من المرتزقة للقيام بعمليات خاصة لمصلحة بوتين والدولة الروسية، دون أن تتحمل السلطات الرسمية الروسية تبعاتها.

بدأت «فاغنر» أولى نشاطاتها في شبه جزيرة القرم عندما ضمها بوتين إلى روسيا. وبعدها نشطت «فاغنر» في الميدان السوري ثمّ الليبي، وفي السودان وأفريقيا الوسطى وأميركا اللاتينية، حيث يكلّفها بوتين بعمليات أمنية وعسكرية ومالية واقتصادية. لذلك يمكن وصف بريغوجين بالصندوق الأسود بالنسبة إلى بوتين. وهذا مصدر حذر بوتين من فلتان المتمرد من يده.

ومنذ العام 2014 بدأ بريغوجين يحتك بشويغو الذي كان بوتين قد عيّنه وزيراً للدفاع العام 2012، وهو الذي نفّذ عملية ضم القرم إلى روسيا، وتعتبر هذه العملية إحدى إنجازاته، إضافةً إلى تثبيت سلطة الأسد في سوريا. شويغو ليس عسكرياً، هو المهندس المدني الذي شغل مناصب حكومية قبل عهد بوتين، حيث خدم في عهد يلتسين. ومن موقعه ذاك نشأت بينه وبين بوتين علاقة صداقة وثقة متبادلة، ولعب دوراً كبيراً في تحديث الجيش الروسي وأسلحته وذخائره.

كانت الحساسية الشخصية بين صديقي بوتين، شويغو وبريغوجين، تتعاظم مع الوقت، إلى أن انفجرت إثر العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا. إن تعثّر عملية الجيش الروسي في المرحلة الأولى وتكبده الخسائر البشرية والمادية الضخمة وتراجعه في الميدان، دفع بوتين إلى الاستعانة بـ»فاغنر» التي أبلت بلاءً مهماً في الميدان، تحديداً في باخموت، وحظيت نتيجة ذلك بتأييد شعبي روسي واسع، واكتسبت حتى في أوساط الجيش مكانة وتقديراً كبيرين.

بعد تلك الإنجازت لـ»فاغنر»، تقول أوساط بريغوجين إنّ شويغو وغيراسيموف بدآ بتقليص توريد الذخائر والأسلحة لقواته، وأرادا تجيير انجازات «فاغنر» لمصلحتهما، حيث طلب شويغو من عناصر «فاغنر» تنظيم عقود تعاقد مع الجيش، في خطوة تؤدي إلى دمجها عملياً في المؤسسة العسكرية الرسمية، الأمر الذي سوف يؤدي إلى إنهاء دور بريغوجين.

رفض هذا الأخير طلب قيادة الجيش، ولمدة شهرين لم يقدم عناصر «فاغنر» على الاستجابة بناء على طلب شويغو. وكانت «فاغنر» في هذا الوقت خارج العمليات العسكرية. توسّط بريغوجين مع بوتين لثني شويغو وغيراسيموف عن قرارهما، لكنه لم يفلح، فانفجر الموقف على الاثر بإعلان بريغوجين تمرده العسكري.

ما الذي دفع بوتين إلى التراجع على الرغم من الموقف المحرج الذي تسبب به تمرد بريغوجين؟ كان بوتين مضطراً إلى تجرّع كأس السم باللجوء إلى تسوية معه، مستعيناً بوساطة صديقهما المشترك لوكاشينكو، بعدما وصله تقرير بأن وحدات بريغوجين القتالية المتوجهة إلى موسكو لم تواجه بأي مقاومة، وأن كتيبة المظليين المتموضعة في محافظة تولا قد انضمت إليه، وكان قبل ذلك قد احتل مراكز القيادة الجنوبية للجيش الروسي في روستوف وفورونيج دون أي مقاومة، وأسقطت قوات دفاعه الجوي طائرة شحن ومروحية عسكرية للجيش الروسي، وبالتالي المواجهة العسكرية مع «فاغنر» ستكون مكلفة جداً.

بدون أدنى شك خرج بريغوجين الذي يتمتع بشعبية روسية وازنة، منتصراً، وسوف يكون وزير الدفاع شويغو هو الخاسر، وهو الذي تدور حوله مع إدارته شكوكاً شعبية كبيرة بالفساد. وهيبة القيصر بوتين أصيبت بندوب كبيرة، وإن سيحفظ له الشعب الروسي موقفه الشجاع بعدم الذهاب إلى خيار المواجهة المكلف جداً. وروسيا الدولة العظمى الغارقة في وحول أوكرانيا خسرت من سمعتها وانكشفت أكثر أمام الأعداء، بانتظار الفصل الأخير من نتيجة تمرد بريغوجين والعملية العسكرية الروسية الخاصة في دونباس، وتداعيات ذلك على مستقبل روسيا ودورها، وعلى العلاقات الدولية ومستقبل النظام العالمي الجديد.


MISS 3