يوسف مرتضى

وداعاً... مقاوم الإقطاع السياسي

3 تموز 2023

02 : 00

غيّب الموت «عزيزنا» حبيب صادق عن عمر ناهز اثنين وتسعين عاماً. كلمة «عزيزي/تي» سمعتها من حبيب صادق عام 1974 عندما استقبلني في مكتبه في وزارة الصحة موفداً من قبل جورج حاوي ليوصي بي شقيقه القاضي محمد علي مدعي عام المحكمة العسكرية، حيث كنت قد أُحلت إلى هذه المحكمة مع الصديقة والرفيقة دلال البزري بدعوى مقاومتنا قوى الأمن الداخلي في تظاهرة طلابية عام 1973 في منطقة الخندق الغميق، في عهد وزير التربية الأسبق إدمون رزق، حين اعتُقلنا وأمضينا خمسة أيام في السجن، ثم أخلي سبيلنا بسند كفالة. وبتوصية من الأستاذ حبيب استقبلني شقيقه القاضي في مكتبه في المحكمة العسكرية بالموعد المحدد لجلسة التحقيق.

بعدما اطّلع القاضي على ملفّي، استوضح مني ما حصل في مواجهة القوى الأمنية لتظاهرتنا الطلابية، ثم أقفل الملف، وبعدما قدّم لي فنجاناً من القهوة، تلا عليّ حكمه بالسجن لمدة شهر مع وقف التنفيذ بتهمة مقاومة رجال الأمن الداخلي.

قبل ذلك، في العام 1972 كنت قد سمعت باسم حبيب صادق الذي كان قد ذاع صيته كمرشّح يساري عن المقعد الشيعي في قضاء مرجعيون- حاصبيا، حيث أشيع أنّه نجح في الانتخابات النيابية في تلك الدورة، وأسقطه المكتب الثاني بالتزوير لمصلحة منافسه كامل الأسعد الذي كنّا ننعته بالإقطاع السياسي. وبعدما تعرّفت إليه شخصياً في العام 1974، وكنت قد أنهيت دراستي الجامعية، وفي ذاك الوقت كنت مسؤولاً عن منظمة الحزب الشيوعي اللبناني في ساحل المتن الجنوبي، وبتوصية من قيادة الحزب، قمنا بتنظيم مهرجان سياسي خطب فيه «عزيزنا» حبيب، في سينما برج البراجنة، حيث استقبل استقبالاً شعبياً حاشداً وحاراً أثار إعجابه ورفع من حماسته الخطابية.

منذ ذلك التاريخ تكرّرت لقاءاتي به، وقد أُعجبت ببلاغته وبأسلوبه الخطابي، وتواضعه ودماثة خلقه. وكلمة «عزيزي/تي» وجدته يكرّرها مع كل محدّثيه ومع كلّ من تواصل معه.

لم ألتقِه بعد ذلك لفترة طويلة، إلى أن استقبلته في موسكو عام 1985، التي زارها بغية تمضية نقاهة في سوتشي على البحر الأسود بدعوة من القيادة السوفياتية. وكنت هناك في مهمة حزبية وصحافية بعد تعرّضي للاعتقال إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982. اكتشف الأطباء الروس في فحص دم الأستاذ حبيب مرضاً خبيثاً، خيّروه بين متابعة العلاج عندهم أو في أي مكان آخر هو يختاره. فذهب إلى أميركا حيث خضع لعلاج تجريبي بمساعدة ابن شقيقه، تلك التجربة المريرة التي واكبته فيها لوقت طويل، أظهرت مدى صلابة إرادته ليس فقط في مواقفه من مختلف القضايا السياسية والوطنية، بل في قضاياه الشخصية والصحية.

بعد اتفاق الطائف أعاد الأستاذ حبيب الحيوية لنشاط المجلس الثقافي للبنان الجنوبي وأفرز حيّزاً مهماً من اهتماماته لجبهة المقاومة الوطنية ضد الإحتلال الإسرائيلي. وفي أول انتخابات نيابية جرت بعد وقف الحرب الأهلية سنة 1992 ترشّح في لائحة التنمية والتحرير بطلب من برّي ونظام الوصاية السورية لمعرفتهما بقوة شعبيّته في دائرة مرجعيون حاصبيا مدعوماً من اليسار اللبناني. ولكن بعد مضي سنتين، ترك الكتلة لعدم انسجامه مع أداء رئيسها نبيه برّي وتفرّده وتعاطيه مع أعضاء الكتلة كأتباع.

في دورة العام 1996 كان جورج حاوي قد استقال من الأمانة العامة للحزب الشيوعي اللبناني، والأستاذ حبيب أعلن ترشّحه في لائحة منافسة للائحة التنمية والتحرير ما أغضب الرئيس نبيه برّي، الذي حاول الضغط على جورج حاوي ليعمل على سحب ترشيح حبيب صادق. وما كان من حاوي وأنا كنت برفقته إلا أن صدّه قائلاً له: أنا تركت قيادة الحزب، ولا مونة لي ولا للحزب على حبيب.

في حملته الانتخابية بمواجهة حبيب صادق كان برّي ينعته بالإقطاع الثقافي. ومرة أخرى أُسقط حبيب صادق بعملية تزوير من قبل الإقطاع السياسي الجديد بزعامة برّي في تلك الدورة.

بعد التحرير في أيار عام 2000، تحوّل المجلس الثقافي للبنان الجنوبي إلى منبر للحوار بين العديد من الأفرقاء السياسيين من اليمين والوسط واليسار، وانبثق عن ذاك الحوار «المنبر الديمقراطي» الذي أسّس للقاء البريستول في أواخر عام 2004 و14 آذار بعد استشهاد الرئيس الحريري عام 2005. لكن عندما حان وقت الحصاد خان أفرقاء 14 آذار المنبر الديمقراطي ورئيسه حبيب صادق، وعقدوا صفقة التحالف الرباعي، فأبعدوا حبيب صادق وأبعدوا معه الوطنيين الديمقراطيين الشيعة ليعوّموا الطائفيين والتحاصصيين أمثالهم، مغلّبين بذلك خيار السلطة وحصة كل فريق بينهم على خيار الدولة التي هي حصة الشعب. ذاك الانحراف باتجاه التحالف الرباعي كان الأساس في قيادة البلاد إلى ما نحن عليه اليوم.

عاش حبيب صادق ضميراً للوطن، وخياره شكّل على الدوام جسر العبور إلى الدولة. ماتت الدولة مع التحالف الرباعي، واليوم مات حبيب الجسد، ويستمرّ فكره ومشروعه ومن تعاونوا بصدق ووفاء معه في المسيرة نحو بناء الدولة، التي لا يمكن أن تقوم إلا على أساس المواطنة والقانون والمؤسسات والديمقراطية والعدالة.

وداعاً حبيب صادق، لروحك السلام ولذكرك الخلود.


MISS 3