جوزيف حبيب

البلقان فوق فوهة بركان!

10 تموز 2023

02 : 00

أين يكمن حقّ الأقلية الصربية في كوسوفو بتقرير مصيرها؟ (أ ف ب)

لطالما كانت منطقة البلقان تقف فوق فوهة بركان نظراً لموقعها الجيوستراتيجي وتركيبتها المجتمعية الفسيفسائية، وسط تقاطعها مع «فوالق» جيوسياسية وعسكرية مزلزلة. فلقد شهدت المنطقة حروباً طاحنة عبر التاريخ، اتّخذت أبعاداً دينية فظيعة منذ اصطدمت شعوبها مع الغزوات الإسلامية، وصولاً إلى تداعيات انهيار الاتحاد السوفياتي مع تفكّك يوغوسلافيا وتفجّر الصراعات الدينية والإثنية الدموية في البوسنة والهرسك، وكوسوفو، فيما لا يزال جمر تلك الحسابات غير المنتهية تحت الرماد.

تطفو بين الفينة والأخرى نزاعات بين الصرب المسيحيين الأرثوذكس والألبان المسلمين السنة في كوسوفو، التي كانت إقليماً صربيّاً حتّى تدخّل حلف الناتو عام 1999 ووضعِه حدّاً لمجازر متبادلة وحسمِه الحرب ضدّ الصرب. ومنذ إعلان كوسوفو استقلالها من جانب واحد عام 2008، تُحاول بريشتينا من دون جدوى فرض سلطتها على الأقلية الصربية التي تُشكّل غالبية في الشمال وتبقى موالية لبلغراد.

تُعتبر كوسوفو بمثابة «قلب صربيا» في وجدان الصرب الجماعي، إذ شهدت المنطقة حروباً مفصلية أبرزها بين المملكة الصربية والسلطنة العثمانية في نهاية القرن الرابع عشر، شكّلت رمزاً تاريخيّاً لمقاومة الصرب للغزاة العثمانيين. وبالتالي، فإنّ الصرب ينظرون إلى كوسوفو كـ»معقل تاريخي مقدّس» بالنسبة إليهم، حيث تضمّ عدداً من أعرق الأديرة التابعة للكنيسة الصربية الأرثوذكسية.

لهذا، تدفع بلغراد بالحدّ الأدنى لإقامة «اتحاد للبلديات الصربية» يؤمّن حكماً ذاتيّاً للصرب في كوسوفو بينما ترفض بريشتينا هذا الاقتراح، لا بل ذهبت الأخيرة بعيداً في مسار «المواجهة الإلغائية» محاولة فرض رؤساء بلديات ألبان بالقوّة على 4 بلدات ذات غالبية صربية ساحقة قاطعت الانتخابات في 23 نيسان بعد استقالة ممثليها في تشرين الثاني الماضي، ما أدّى إلى اندلاع صدامات عنيفة بين الصرب وعناصر من قوّة «كفور» التابعة للناتو، الأمر الذي أغضب حلفاء كوسوفو الغربيين.

وسرعان ما تراجعت بريشتينا عن خطوتها المتهوّرة تحت ضغوط غربية هائلة ووسط أجواء مشحونة حشد خلالها الجيش الصربي وحداته القتالية على الحدود مع كوسوفو. وفي حين جُمّدت الأزمة موَقتاً بانتظار جولة تصعيد قد تفرض نفسها في أي لحظة، يرى مراقبون أن كوسوفو تُعطي «حججاً» على «طبق من فضّة» لروسيا للدخول على خطّ الأزمات المستفحلة والاستثمار في تفجير الوضع في البلقان، إن وجدت ذلك يصبّ في مصلحتها في خضمّ حربها المتعثّرة في أوكرانيا.

ويتساءل المراقبون أيضاً: كيف لسلطات بريشتينا أن تُمعن في قمع الأقلية الصربية داخل كيانها الفتي القائم أساساً على فكرة حقّ الشعوب بتقرير مصيرها؟ وأين يكمن حقّ الأقلية الصربية في كوسوفو بتقرير مصيرها، لا سيّما أنّها سُلخت عن صربيا ووُضعت تحت مظلّة كيان لا يُعبّر عن هويّتها وتطلّعاتها وتنظر إليه على أنّه أُنشئ لتحقيق مصلحة غربيّة تقضي بإضعاف نفوذ موسكو في البلقان؟

وبالإنتقال إلى البوسنة والهرسك، حيث تفجّرت أزمة جديدة مع إقرار نوّاب جمهورية «صربسكا» قانونَين في نهاية حزيران، ينصّ الأوّل على رفض تنفيذ قرارات المحكمة الدستورية البوسنية، فيما يُلغي الثاني سلطة الممثل السامي الدولي الألماني كريستيان شميت، الذي يُشرف على تطبيق اتفاقات دايتون للسلام المُبرمة في الولايات المتحدة عام 1995 ويتمتّع بصلاحيات «سيادية» واسعة تسمح له بإلغاء قوانين أو فرضها، فضلاً عن عزل مسؤولين منتخبين.

وفي وقت سارع فيه شميت إلى إبطال القانونَين الصربيَّين بغطاء غربي، لم يتوانَ رئيس «صربسكا» المُقرّب من موسكو والمُعاقب من واشنطن ولندن، ميلوراد دوديك، إلى التأكيد على القانونَين عبر توقيعهما وإصدارهما الجمعة، ودخولهما حيّز التنفيذ الأحد، واعتباره الممثل السامي الدولي وكأنّه «غير موجود» لأنّ مجلس الأمن الدولي لم يُصادق على تعيينه عكس سابقيه.

فهل تُمهّد هذه التطوّرات الدراماتيكية إلى جولة عنف جديدة في البلقان في ظلّ مخاض ولادة نظام دولي جديد؟ وهل تولّد العلاقات العدائية بين اللاعبين المعنيين واضطراب موازين قواهم حروباً جديدة؟ أم أن حساباتهم المعقّدة و»ضمانة» حلف الناتو تحولان دون الانزلاق إلى آتون مرعب؟ الأكيد أن بذور الحرب قائمة و»البركان البلقاني» ليس بحاجة سوى إلى «منفذ» صغير ليقذف حممه القاتلة.


MISS 3