عيسى مخلوف

ميلان كونديرا: الرواية في مواجهة الواقع

13 تموز 2023

02 : 00

توفّي يوم الثلثاء الماضي عن 94 عاماً الروائي التشيكي الفرنسي ميلان كونديرا الذي يُعَدّ أحد أبرز الروائيين في الزمن الراهن. هو الذي نادى بالبقاء في تشيكوسلوفاكيا بعد الاجتياح السوفياتي في العام 1968، وأكّد قدرة الثقافة والأدب على المواجهة، وجد نفسه منفيّاً في باريس حيث حصل على الجنسيّة الفرنسيّة.

«عيد اللامعنى» عنوان روايته الأخيرة التي صدرت حديثاً عن دار «غاليمار» الباريسيّة، وهي تنطوي على نظرة ساخرة، لكن جادّة للغاية في تطرّقها إلى حالة اللامعنى والتفاهة المُطلقة التي تسود الحياة السياسية والواقع، من خلال سرد الحياة اليوميّة لأربعة أصدقاء يعيشون في العاصمة الفرنسية اليوم. سبقت هذه الرواية روايات عدّة يحضر فيها كذلك حسّ الفُكاهة والسخرية، ومنها: «الدعابة» (روايته الأولى)، «الضحك والنسيان»، «الخلود»…

في هذه الكتب، يُشرِّح كونديرا حَيَوات الأفراد والمجتمعات كاشفًا حقيقة العالم. كتابه الأشهر «خفّةُ الكائن التي لا تُحتمل»، وهو رواية بقدر ما هو بحث، يعود فيه إلى الاجتياح السوفياتي لمدينة براغ في العام 1968، و»كيتش» الأنظمة الشموليّة، وعلاقات عاطفية لا تخلو من إيروسيّة، وقد استطاع من خلال هذا الكتاب أن يختصر الجوانب الأساسيّة لفنّه الروائي، وفيه يطرح السؤال الجوهري: ما الذي يمكن فعله حيال مصائرنا الخاصّة والجماعيّة، المصائر التي تَحدث مرّة واحدة ولا يمكن التحقُّق من أصولها وقواعدها؟ هذا السؤال، بالنسبة إلى الكاتب، هو السؤال المركزي حيال إفلاس الإيديولوجيات، بما فيها الماركسيّة. من هذا الفشل بالذات، تأتي «خفّة» الوجود التي يشير إليها الكاتب في عنوان كتابه. كأنّه يقول: لا تأخذوا العالم على محمل الجدّ، عالم يحكمه مرضى يمثّلون الجانب الأكثر عنفاً والأكثر عتمة في النفس البشرية. في هذا المناخ العبثيّ أيضاً ترتسم مصائر البشر وتستمرّ الحروب ويموت شخص من الجوع كلّ أربع ثوانٍ.

تقترن الرواية عند ميلان كونديرا بالمعرفة والفكر. إنّها موقف من الحياة والعالم، «موقف يستبعد أيّ ارتباط بسياسة، أو معتقد، أو إيديولوجيا، أو مجتمع...». من هذا المنطلق، يضع كونديرا الرواية في مسارها التاريخي مع أعلام كبار من ثربانتس إلى كافكا، مروراً بالفيلسوف والكاتب الفرنسي دُوني ديدرو، أحد رموز عصر الأنوار. كتب كونديرا مجموعتين شعريّتين («الإنسان هذه الحديقة الواسعة» و»مونولوغات») في خمسينات القرن العشرين، لكنّه عُرفَ على المستوى العالمي من خلال نتاجه الروائي الذي تُرجمَ إلى أكثر من ثمانين لغة بينها اللغة العربية، من خلال كتّاب ومترجمين منهم بدر الدين عرودكي وماري طوق.

هنا تقتضي الإشارة إلى أنّ هذا النتاج يتّكئ على المُنجز الشعري الحديث، في زمن تبدو فيه كتابة الشعر أمراً غريباً. لقد ساهم الإنجاز الشعري في أوروبا بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين في تحرير اللغة السرديّة وتقنيات الكتابة. يحضر الشعر، بشكل عامّ، في الأدب الأميركي اللاتيني وما عُرفَ بالواقعيّة السحريّة، وفي نماذج مهمّة من الأدب الأوروبي. وليست مصادفة أن يكون عنوان إحدى روايات كونديرا: «الحياة في مكان آخر»، وهو رجع صدى لعبارة الشاعر الفرنسي أرتور رامبو: «الحياة الحقيقية مفقودة». بطل الرواية المدعوّ جاروميل هو شاعر أيضاً، وهو رامبو في الوقت نفسه. عبارة رامبو التفتَ إليها أيضاً عدد من الفلاسفة المعاصرين ومنهم الفيلسوف الفرنسي ألان باديو، الذي كتب الرواية والنصوص المسرحيّة وسمّى أحد كتبه: «الحياة الحقيقية» ليتحدّث عن الأزمات في الغرب والعالم بوصفها أعراضاً لـِ «قلق عميق في الحضارة». مارسيل بروست هو أيضاً أحد الروائيين الذين استخدموا، بطريقة غير مستغلّة من قَبل في الرواية، الوسائل والموارد الشعريّة لفهم الواقع.

ميلان كونديرا من قلّة من الأدباء تصدر أعمالهم الكاملة وهم أحياء، ضمن سلسلة «لابلياد» العريقة التي تصدرها دار «غاليمار». إنّه علامة فارقة في الأدب الروائي، وكجميع الكتّاب الكبار، تنتهي حياته الزمنية ولا تنتهي كتبه التي تتبع مَسارها الخاصّ الذي لا يمكن حصره في زمان أو مكان.


MISS 3