زينة طراد

نسيم نقولا طالب*: الوباء كان متوقعاً!

15 نيسان 2020

04 : 55

نسيم نقولا طالب المولود في منطقة أميون اللبنانية في 11 أيلول هو واحد من أهم كتّاب المقالات وأكثرهم جرأة وتأثيراً في هذا العصر. كان طالب تاجراً في السابق وأصبح اليوم أديباً وباحثاً وكاتب مقالات علمية كثيرة، وهو يكرّس نفسه للتفكير الاحتمالي وأصبح أستاذاً جامعياً في هندسة المخاطرة في معهد البوليتيكنيك في جامعة نيويورك.

تشمل كتبه سلسلة أدبية مؤلفة من خمسة مجلدات بعنوان Incerto (المجازفة)، وقد تُرجِمت إلى 36 لغة. ويُعتبر كتاب The Black Swan (البجعة السوداء) الذي صدر في العام 2007 من بين أهم 12 كتاباً مؤثراً منذ الحرب العالمية الثانية. في مقالة حديثة، يعتبر طالب أن الوباء الراهن ليس "بجعة سوداء" بل "بجعة بيضاء"، فيدعونا إلى التفكير بتداعيات المخاطر الفائقة والمنهجية.

برأي طالب، يخطئ من يصف فيروس "كوفيد - 19" بـ"البجعة السوداء" (تشير هذه النظرية إلى صعوبة التنبؤ بالأحداث المفاجئة). يحمل هذا الوباء بنظره "مجازفة كنا متأكدين من ظهورها في مرحلة معينة. الوباء القوي نتيجة حتمية لبنية العالم المعاصر، ومن المتوقع أن تتضخم تداعياته الاقتصادية بسبب توسّع الترابط العالمي وإصرار الناس على تحقيق أفضل نتائج ممكنة".

لكنّ فيروس كورونا اجتاح عدداً كبيراً من الدول الغربية، بدءاً من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا. لم تكن هذه البلدان مستعدة بأي شكل لمواجهة وضع مماثل، لذا اضطرت لفرض عزل قسري واسع النطاق على السكان لتخفيف أعباء القطاع الصحي. نتيجةً لذلك، تعطلت الأنظمة الاقتصادية في تلك البلدان جزئياً، ما أدى إلى عواقب وخيمة وغير متوقعة. من وجهة نظر هذه البلدان وشعوبها، يدخل هذا الوضع في خانة الأحداث المفاجئة.



تحتل نقاط مراقبة الحدث أهمية كبرى في تحليل طالب. في كتابه اللاحق Antifragile (مضاد للهشاشة)، يذكر طالب أن الأحداث تُعتبر غير متوقعة من وجهة نظر المراقب الدقيق. إنه شخص قصير النظر ولا يستطيع توقّع تسلسل الأحداث التي تنتج عواقب فائقة القوة، فيتعرّض لإحراج كبير. في الحالات المتطرفة، يعتبر الفرد الجاهل بالكامل جميع الأحداث مفاجئة. في المقابل، لا تكون أي أحداث غير متوقعة بنظر الشخص المُطّلع على كافة المعلومات.عملياً، يطرح مفهوم "البجعة السوداء" نوعَين من الأسئلة. السؤال الأول مرتبط بالوقائع، والسؤال الثاني أخلاقي بطبيعته. على مستوى الوقائع، يُعتبر الوباء بنظر عدد من الدول الغربية حدثاً غير متوقع لأنها ليست مستعدة للتعامل معه. أما السؤال الأخلاقي فيتعلق بمعرفة مدى قدرة تلك الدول على الاستعداد مسبقاً لمواجهة أحداث مماثلة.

يتّكل طالب على هذا الجانب تحديداً حين يصف الوباء الراهن بـ"البجعة البيضاء"، أي الحدث المتوقع. نظراً إلى سهولة توقّع هذا الوباء، كان يُفترض ألا يفاجئ الدول في أي ظرف من الظروف. يوضح طالب: "كانت حكومة سنغافورة التي قدّمنا لها التوصيات في الماضي مستعدة لمواجهة هذا الاحتمال، فوضعت خطة محددة منذ بداية العام 2010". كذلك، كان جزء من البلدان الآسيوية مستعداً لأحداث مماثلة، على غرار كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ... ونظراً إلى طريقة تعامل ألمانيا وهولندا وأيسلندا ولوكسمبورغ مع الأزمة الراهنة في أوروبا، يمكن ألا نعتبر هذه البلدان "غبية" في طبيعة استجابتها لفيروس "كوفيد-19". إنه المصطلح الذي يستعمله نسيم طالب لوصف الجهات التي سمحت لنفسها بأن تتفاجأ بأحداث متوقعة.

منذ العام 2003، أرسل الخبير العالمي في الأمراض المعدية والمدارية ديدييه راوولت الذي أصبح مشهوراً اليوم تقريراً إلى وزير الصحة الفرنسي يصف فيه الفيروسات الناشئة كجزءٍ من التهديدات التي تزيد أعباء مجتمعاتنا. كتب راوولت حينها: "يُعتبر خطر ظهور طفرات من الفيروسات التنفسية، لا سيما الإنفلونزا، من أكثر الظواهر المخيفة راهناً. ظهرت طفرة جديدة من الإنفلونزا في العام 1999 في هونغ كونغ. نجحت جهود احتواء هذا الفيروس المشتق من الطيور والقاتل في معظم الحالات، لكنّ الطفرة المقبلة من الإنفلونزا قد لا تنتهي بهذه السرعة. تبدو المخاطر الوبائية التي تطرحها الأمراض المنقولة عن طريق الجهاز التنفسي هائلة بسبب زيادة الكثافة السكانية حول العالم. في الوقت الراهن، يعيش أكثر من 1.6 مليار فرد في مدنٍ تشمل مناطق ضخمة يفوق فيها عدد السكان العشرة ملايين، ويتواجد معظمهم اليوم في بلدان يتراجع فيها المستوى الاقتصادي". ثم أضاف أن "درجة استعدادنا لهذه الأحداث العشوائية ضعيفة" قبل أن يقترح توصيات عملية كثيرة لتحسين الوضع.

في العام 2019، تطرّق خبراء الصحة العامة في فرنسا إلى مخاطر انتشار أوبئة الإنفلونزا وأوصوا بكل وضوح بتحضير حزمة من التدابير الطبية المضادة. يذكر تقريرهم ما يلي: "في حال انتشار وباء من أي نوع، ستتضخّم الحاجة إلى أقنعة الوجه، فتحتاج الأسرة الواحدة إلى علبة من خمسين قناعاً، أي ما يساوي 20 مليون علبة في حال إصابة 30% من السكان. يجب أن نفكر بأهمية الاحتفاظ بمخزون احتياطي بحسب قدرة المصنّعين على توفير الكميات اللازمة. ويجب أن يصبح ذلك المخزون في متناول المستخدمين، تزامناً مع إقرار خطة بسيطة وواضحة لتوزيع المعــــدات في المجتمع".

تتعدد المؤشرات التي تثبت أن البلدان كانت تتمتع بالوسائل اللازمة للاستعداد لمخاطر انتشار الأوبئة. كان الامتناع عن إدراج هذا الاحتمال ضمن استراتيجية عامة وبعيدة النظر (أي عدم أخذ آراء الخبراء "المتشائمين" بالاعتبار) خياراً سيئاً. لا تسمح مقاربة إيميل كويه الشهيرة بمنع الأزمات ولا تُحوّل الأحداث المتوقعة التي نرفض رؤيتها إلى أحداث مفاجئة. حين نقيّم حصيلة الأزمة الصحية الراهنة، من المستبعد أن نُعفِي الدول التي تفتقر إلى بُعد النظر من مسؤولياتها. بانتظار صدور التقييم النهائي، لا مفر من أن تواجه بلدان كثيرة تداعيات هذا الحدث المباغت، نتيجة فشلها في توقّع ما هو متوقع، ولا شك في أن آثار الأزمة ستكون فائقة القوة راهناً ومستقبلاً.


MISS 3