ما وراء تشوّش الدماغ بسبب "كوفيد طويل الأمد"

02 : 00

أصبحت ذروة جائحة «كوفيد - 19» وراءنا، لكن لا تزال مشكلة «كوفيد طويل الأمد» تُسبب الأعراض في بعض الحالات طوال أسابيع، أو أشهر، أو حتى سنوات، بعد التقاط العدوى الأصلية. من بين أكثر من مئتي مؤشر الى المرض، يُعتبر تشوش الدماغ الأكثر شيوعاً واستمرارية، وهو يشير إلى صعوبة في التفكير، والفهم، والتركيز، واسترجاع الذكريات.



قد تكون أعراض «كوفيد طويل الأمد» امتداداً للعدوى الأصلية الحادة، أو ربما تتغير وتصيب أي عضو في الجسم. تكشف دراسة من العام 2021 مثلاً أن الأعراض تستهدف أنظمة متنوعة في الجسم وتؤثر بشدة على نسبة التعرّض للأمراض والوفاة ونوعية الحياة عموماً.

تشدد تلك الدراسة على الآثار المستمرة على مستوى القلب، والرئتين، وجهاز المناعة، والبنكرياس، والجهاز الهضمي، والكلى، والطحال، والكبد، والأوعية الدموية، والجهاز التناسلي، والأعصاب.

لن يتعرّض الفرد طبعاً لجميع الأعراض التي ذكرتها دراسة دولية واسعة أجرتها مجلة eClinicalMedicine وبلغ عددها 203. في هذه الدراسة، ذكر 91.8% من المشاركين أنهم واجهوا أعراضاً دامت لأكثر من 35 أسبوعاً بعد التقاط العدوى الأصلية، وشملت المشاكل الأكثر شيوعاً وإزعاجاً أعراضاً مثل التعب، والاضطرابات التنفسية، والخلل المعرفي أو تشوش الدماغ.

يُعتبر النوع «الكلاسيكي» من «كوفيد طويل الأمد» أكثر شيوعاً وسط الراشدين الأصغر سناً والنساء، وهو يترافق مع تشوش الدماغ، والإرهاق، واختلال النطق، والتوعك بعد الجهد. يكون كبار السن والمصابون بأمراض متزامنة أكثر عرضة للآثار الأيضية والقلبية والوعائية.

الأعراض العصبية

بدأت التقارير التي تشير إلى تأثير «كوفيد-19» على الجهاز العصبي المركزي تظهر منذ مرحلة مبكرة من انتشار الجائحة، وقد تراكمت الأدلة التي تصبّ في الخانة نفسها منذ ذلك الحين.

يكون المصابون بحالات حادة من المرض الذي يترافق مع نقص الأكسجة، والحاجة إلى تنفس اصطناعي، والصدمات النفسية، أكثر عرضة للمشاكل النفسية أو الاختلالات المعرفية. لكن يبقى المصاب بفيروس «كوفيد - 19» أكثر عرضة للمشاكل العصبية أو العقلية بعد التقاط العدوى الأصلية.

تتفاقم بعض الأعراض، مثل الاضطرابات المزاجية والقلق، خلال فترة قصيرة بعد التقاط العدوى، ثم تعود لاحقاً إلى مستوياتها الأولية. لكن تستمر أعراض أخرى لفترة أطول بكثير، أبرزها تشوش الدماغ. رصدت دراسة جديدة نشرتها مجلة «ساينتفيك ريبورتس» هذه الحالة لدى 89% من المصابين بمشكلة «كوفيد طويل الأمد».

في هذه الدراسة، اعترف 89% من المشاركين أيضاً بشعورهم بالتعب، وتكلم 77% منهم عن صعوبة في التركيز. وعندما حلل الباحثون وضعهم عبر استعمال «تقييم مونتريال الإدراكي»، تبيّن أن 46% منهم كانوا مصابين بالاختلال المعرفي المعتدل.

ما هو تشوّش الدماغ؟

غالباً ما ينجم تشوش الدماغ عن عوامل متنوعة، أبرزها الالتهابات، والارتجاج الدماغي، والتقلبات الهرمونية، والأدوية، وقد يكون من أكثر الأعراض شيوعاً لدى المصابين بمشكلة «كوفيد طويل الأمد».

قد يواجه المصاب بتشوش الدماغ مشاكل على مستوى الذاكرة، والتركيز، والتفكير، والفهم، حتى أنه قد يشعر بالتعب والضغط النفسي.

يوضح عالِم الفيروسات ستيفن غريفين من كلية الطب في جامعة «ليدز»: «قد تتفاوت الأعراض بين الناس، لكن يتعلق جزء من أكبر المشاكل بالعجز عن تذكّر مسائل مثل الأسماء، والأماكن، والأحداث، بالإضافة إلى عجز عام عن إتمام مهام معقدة، والحفاظ على التركيز لوقتٍ طويل، وأداء مهام متعددة في الوقت نفسه. في بعض الحالات، قد يتأثر مستوى اليقظة العام أيضاً وتبدأ هذه الحالة بإعاقة الحياة اليومية إذا تزامنت مع التعب الشديد، فتتأثر التفاعلات الاجتماعية أو الأداء في المدرسة والعمل».

رصدت الدراسة التي استكشفت آثار «كوفيد-19» الدائمة أعراض تشوش الدماغ والاختلال المعرفي وضعف الذاكرة لدى 85.1% من المشاركين، واعترف حوالى 90% من العاملين بأن تشوش الدماغ يؤثر بقدرتهم على العمل بدرجة معيّنة.

ما الرابط بين «كوفيد - 19» وتشوش الدماغ؟

تكشف الأبحاث مجموعة محتملة من أسباب تشوش الدماغ بعد الإصابة بعدوى «كوفيد-19»، أبرزها ما يلي:

• بقاء الفيروس في خزانات الأنسجة.

• إختلال نظام الاستجابة المناعية.

• إضطراب المتقدرات.

• إلتهاب الأوعية الدموية (الطبقة البطانية) و/أو الخلايا العصبية.

• إختلال الميكروبيوم.

تتعلق إحدى النظريات باحتمال أن يتجاوز فيروس كورونا الحاجز الدموي الدماغي ويؤثر مباشرةً على الخلايا في الجهاز العصبي المركزي، لكن توصّل العلماء إلى هذه النتيجة في الخلايا المعزولة داخل المختبر حصراً.

تكشف هذه الدراسة أيضاً أن متحورَين من فيروس كورونا (النوع العدائي الأصلي ومتحور «أوميكرون») كانا الأكثر قدرة على إجهاد الخلايا وإلحاق الضرر بمكونات الحاجز الدموي الدماغي.

لكن يظن الدكتور جيوفاني شيفيتو، أستاذ في علم الأعصاب في مركز الطب التابع لجامعة «روشستر» في نيويورك، أن «كوفيد طويل الأمد» ينجم على الأرجح عن عوامل متعددة: «من المستبعد أن يتعلق السبب بوجود فيروس كورونا في الدماغ، لا سيما في المرحلة المزمنة من المرض. لكن قد يؤدي بقاء الفيروس في الجسم إلى نشوء حالة التهابية مزمنة أكثر حدّة، ما يزيد احتمال التعرض لاختلالات في أعضاء متنوعة».

اليوم، تتلاحق الأدلة التي تعتبر تشوش الدماغ بسبب «كوفيد طويل الأمد» نتيجة لاختلال المناعة والالتهابات. نشرت مجلة «ناتشر كوميونيكشنز» دراسة جديدة مفادها أن المصابين بفيروس «كوفيد» يحملون مستويات مرتفعة من المؤشرات الحيوية الأربعة التي تشير إلى وجود إصابة دماغية، وقد استمر مؤشران منها لفترة طويلة بعد التقاط العدوى الأصلية، لا سيما لدى من واجهوا مضاعفات عصبية خلال مرحلة العدوى الحادة.

يظن المشرفون على هذه الدراسة أن تلك الاستجابات المناعية غير الطبيعية قد تُسبب التهابات مستمرة، ومن المعروف أن الالتهاب يؤدي إلى تشوش الدماغ. برأيهم، يمكن تطوير العلاجات لاستهداف تلك الاستجابات بعد اكتشاف أسبابها.

تغيرات دماغية بارزة

سواء كانت هذه الآثار ناجمة عن غزو فيروسي أو خلل مناعي، تكشف الأبحاث أن عدوى كورونا قد تُسبب تغيرات في الدماغ.

استناداً إلى بيانات من البنك الحيوي البريطاني، قارنت دراسة نشرتها مجلة «ناتشر» في آذار 2022 المسوحات الدماغية التي خضع لها المشاركون قبل التقاط «كوفيد-19» وبعده.

لوحظ أن المصابين بالعدوى سجلوا تراجعاً في سماكة المادة الرمادية، وظهرت لديهم مؤشرات الى تضرر الأنسجة في المناطق الشمّية، وحصلت تغيرات في حجم أدمغتهم، وتراجعت قدراتهم المعرفية بدرجة بسيطة مقارنةً بغير المصابين بالعدوى.

يوضح غريفين: «كما يحصل عند التعرّض لمشاكل متنوعة بسبب «كوفيد طويل الأمد»، يترافق تشوش الدماغ على الأرجح مع خليط من العدوى المستمرة وتغيرات مناعية وأيضية متزامنة أو متلاحقة. أكثر ما يثير القلق هو ظهور التغيرات التي تصيب الدماغ، بما في ذلك تراجع المادة الرمادية، من دون أن يواجه المرضى أي أعراض عصبية بالضرورة».

نشرت مجلة «ناتشر نوروساينس» بحثاً يدعم هذه النتائج، حيث استعمل العلماء تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي الديناميكي المُعزّز بالتباين مع مصابين بمشكلة «كوفيد طويل الأمد» التي تتزامن مع تشوش الدماغ أو لا تترافق مع هذا الاضطراب. اكتشف الباحثون أن الحاجز الدموي الدماغي يصبح أكثر عرضة للاختراق لدى المصابين بتشوش الدماغ، حتى أن حجم الدماغ العام والمادة البيضاء يتراجع.

يظن الباحثون أن تشوش الدماغ المرتبط بحالة «كوفيد طويل الأمد» ينجم عن اختلال وظيفة الحاجز الدموي الدماغي واستمرار الالتهاب في الجسم. من وجهة نظرهم، تشير البيانات التي جمعوها حتى الآن إلى اضطراب الحاجز الدموي الدماغي خلال مرحلة الالتهاب الحاد و»كوفيد طويل الأمد»، إذ يبرز رابط قوي بين هذه الحالة والاختلال المعرفي في تلك المرحلة بالذات.

خطوات للتعامل مع تشوش الدماغللتكيف مع تشوش الدماغ، بغض النظر عن أسبابه، يوصي الخبراء ببعض النصائح العامة، أبرزها تبنّي حمية صحية وغنية بالخضروات والفاكهة الطازجة، والحد من المأكولات المُصنّعة، وممارسة الرياضة بانتظام، وتحسين نوعية النوم، والسيطرة على الضغط النفسي.

يقول شيفيتو: «تقضي المبادئ العامة بتجنب تدهور الصحة والقوة، ما يعني ضرورة المواظبة على نشاطات جسدية منتظمة، مع أن هذه الخطوة تتطلب أولاً زيادة قدرة التحمّل. في غضون ذلك، حذار من التعب العقلي الذي ينجم عن العمليات العقلية المفرطة على مر اليوم. في معظم الحالات، تظهر أيضاً أعراض الاكتئاب، لذا من الضروري أن تحافظ على روابطك الاجتماعية. على كل مصاب بتشوش الدماغ بسبب «كوفيد طويل الأمد» أن يُحسّن إيقاع حياته عند اختبار هذه المشكلة أو أعراض أخرى. قد يتفاقم الوضع أحياناً بسبب الإجهاد المفرط. يستفيد الناس أيضاً من استعمال التكنولوجيا وضبط المنبهات للتكيف مع تشوش الدماغ والتعب المرافق لمشكلة «كوفيد طويل الأمد».

مشكلة طويلة تحتاج إلى حل

يعرف الجميع اليوم أن «كوفيد»، على غرار أمراض فيروسية أخرى، قد يترافق مع آثار تتجاوز مدة العدوى الأصلية، وقد بدأت الأبحاث تكتشف السبب للتو. يبقى تجنب العدوى أفضل طريقة للوقاية من هذه التداعيات، لكن تزداد الأدلة التي تشير إلى تراجع المخاطر بفضل اللقاحات والعلاجات المضادة للفيروسات في أولى مراحل العدوى.

لكن يُعبّر غريفين عن استيائه من غياب أي خطوات ملموسة لتجنب العدوى ومواجهة آثار «كوفيد- 19» على المدى الطويل، فيقول: «بما أن تشوش الدماغ لا يظهر بالضرورة في مرحلة المرض الحاد، يميل الكثيرون إلى الإغفال عنه. إنه سبب آخر وراء تردد الحكومات الغربية في كبح انتشار هذا الفيروس وإهمال تداعياته. يجب أن تدفعنا إضافة تشوش الدماغ إلى قائمة طويلة من المشاكل التي يسببها «كوفيد» إلى التساؤل حول ما يصيب المعرّضين لأنواع مختلفة من العدوى المرتبطة بهذا الفيروس، بما في ذلك المشاكل التي تصيب أولادنا».

MISS 3