رامي الرّيس

لإسقاط سياسات كمّ الأفواه!

الحريّات في لبنان تكاد تكون من الميزات التفاضليّة القليلة الباقية في البلد والتي يمكن المفاخرة فيها على ضوء استدامة أنظمة القمع والديكتاتوريّة لوجودها في المنطقة وبعضها كان لامس الانهيار التام والسقوط المدوي لولا التدخل الخارجي الذي أنقذها في الوقت المناسب. صحيحٌ أنّ المقولة الشهيرة للرئيس سليم الحص بأنّ في لبنان الكثير من الحرية والقليل من الديمقراطيّة لا تزال مفاعيلها سارية ولو أنّها تحتمل النقاش السياسي والنظري؛ إلا أنّ الحفاظ على الحريات هو مسؤوليّة جماعيّة للبنانيين، وليس المقصود هنا السلطة السياسيّة التي قد يرغب بعض مكوناتها بتقويض نظام الحريات وتضييق هوامشه لأنّه يصيبها في الكثير من الأحيان بسبب ممارساتها، بل المقصود المجتمع اللبناني بمختلف شرائحه ومكوناته.

ثمّة مسؤوليّة كبيرة تقع على جميع مكونات المجتمع اللبناني من هيئات اجتماعيّة وثقافيّة ونقابيّة وعماليّة وأكاديميّة تحتّم عليها مواصلة الكفاح للحفاظ على الحريّات في لبنان لأنّها مسارها الوحيد للحفاظ على وجودها ووجود البلاد ولأنّها المساحة الوحيدة التي تتيح لها النضال من أجل حقوقها ومن أجل قيام نظام ديمقراطي تسوده المساواة بين اللبنانيين دون تمييز طائفي أو مذهبي أو أي شكل آخر من أشكال التمييز. أن يصدر حكم قضائي بسجن إعلاميّة لبنانيّة (الزميلة ديما صادق) بسبب تغريدة نشرتها أو موقف سياسي من فئة معيّنة من اللبنانيين إنما هو سابقة خطيرة لا تعكس انحداراً غير محمود في مستوى الحريّات العامة، إنما تعكس أيضاً تراجعاً كبيراً في السلطة القضائيّة التي يُفترض أن تقف صفاً واحداً مع الحريّات الإعلاميّة وأن تحميها من أي تعرّض لها وفق القوانين ووفق الدور الكبير الذي يؤديه القضاء في حماية التوازن في البلد. لربما يعتبر البعض أنّ هذه الأخيرة لا تقع ضمن صلاحيّات السلطة القضائيّة. قد لا ينص عليها الدستور صراحة، وقد لا تشير إليها القوانين والأنظمة، إلا أنّها تقع في روحيّة عمل السلطة القضائيّة التي يفترض أن يتوازن دورها مع السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة بحيث لا تطغى واحدة على الأخرى أو تتعدّى عليها بل تتعاون في ما بينها وفق الدوائر المنصوص عنها دستوريّاً. أن تأتي الضربة للحريّات من القضاء هي خطوة تراجعيّة جديدة إلى الخلف تُسجّل على القضاء ودوره على الصعيد الوطني، بدل أن يكون القضاء هو الذي ينتصر للإعلام وحرياته. غنيٌ عن القول طبعاً أنّ الحريّة يجب أن تكون مسؤولة وأن تُمارس بوعي لا أن تُستغل لإثارة النعرات الطائفيّة والمذهبيّة وتأجيج التوترات والصراعات السياسيّة، فهذا يُصنّف في باب التحريض وبث الكراهيّة ويخرج عن أدبيّات الإعلام ودوره ووظيفته. إن توسل الوسائل القانونيّة لاستئناف القرار متاحة، ولكن الاعتراض هو على المبدأ وعلى السابقة التي من غير المستبعد أن تُسجّل كذريعة تُستخدم في المستقبل للتعرّض للإعلام والإعلاميين في لبنان وفق حسابات وأهواء سياسيّة أو مصلحيّة معيّنة تصب في خدمة هذا الطرف السياسي أو ذاك وتؤدي إلى ضرب نظام الحريّات في البلاد وهز أسسه ومرتكزاته كي يصبح لبنان ممثلاً لبعض الدول المحيطة التي لطالما افتقدت إلى الحريّات بكل أنواعها: التجمّع والتظاهر والتعبير وممارسة الشعائر الدينيّة وسواها.

لبنان بلد الحريّات. كان وسيبقى كذلك، وكل محاولات سلبه هذا الدور لا يمكن أن يُكتب لها النجاح مهما اشتدت الضغوطات أو انهارت منظومة القيم والأخلاق. لا لسجن الإعلاميين وكمّ الأفواه!