جيمي الزاخم

Mickey: The Story of a Mouse...قصةٌ بدوائرَ مغلقة

22 تموز 2023

02 : 05

سيّج الوثائقي دوائر ميكي بأسلاك تحجب حكاياها واسرارها

في عيد ميلاده الرابع والتسعين، صدر في تشرين الثاني الماضي فيلمٌ وثائقيّ عن أشهر الشخصيات الكرتونية «ميكي: قصة فأر». أخرجه Jeff Malmberg وبثّتنه منصة +Disney. شاركهُ نقّادْ، مؤرخون، رسّامون ومعجبون قطعَ قالب الحلوى. تحلّقوا حوله بتحليلات، سرديّات، مقارنات و قراءات في تبدّلات طرأت على ميكي منذ نهاية عشرينات القرن الماضي.



يرافق الوثائقي مبتكرَ شخصية ميكي مؤسِّسَ شركة ديزني الراحل والت ديزني. ينطلق من طفولته. تطوف الكاميرا حول «شجرة الحلم» التي كان يستلقي في ظلالها. تحفر في التراب حيث نبتَت مخيّلتُه. عام 1928، في رحلة على متن القطار، سقط ميكي من دنيا الفئران الخيالية على سطح أفكار والت. كأنّ بابا نويل اجتاز مدخنةَ الأوضاع المادّية والمهنية السوداء مع هدايا ثمينة. زوجته اقترحت اسمَ ميكي. هذه هي الرواية المتداوَلة لبداية الأسطورة. عرّج الفيلم على احتمال آخر: أن يكون ميكي وُلد في مكتب شهد مخاضَه بعد تشاورٍ وعصفٍ ذهنيٍّ. باب هذا السؤال يبقى مفتوحاً. فصاحب النفوذ والسلطة يمسك غالباً بأذن الحقيقة ويلصقها أينما يريد.

الوثائقي ليس تكريماً فقط لميكي. هو ترسيخ لوالت وديزني والذاكرة. ذاكرة ينتقي منها الوثائقي. فلكل مؤسسة إعلامية أجندة تمحو صفحات أو تمزّقها. يرسم الفيلم دوائرَ ميكي. سيّج الكثير منها بأسلاك شائكة لتبقى حكاياها مغلقةً ومحجوبة. يحيك قطعاً أخرى بحَرير الحنين. لكنّه يتجاوز الجدّة التي تخبر قصّةَ ابن دون عيوب. يعترف ببعضها لكسب المصداقية. مصداقية مدروسة نظاميّة.

ميكي هو تجسيد لوالت. يتمازجان في الوثائقي إلى حدود طغيان الأخير على الأول. يد والت رسمت الشخصيّة وحرّكتها. صوته رافق رسومَ ميكي حوالى العشرين عاماً إلى أن أجبرته ظروفه الصحيّة على الاعتزال. يحضر جنودٌ تألّقوا في قطاعات دولة ديزني العظمى. بإخراج دقيق وفخم، تمرّ الرسومات على الشاشة. تواكب انطلاقة ميكي الذي يتبدل شكلاً ومضموناً مع كل فشل أو نجاح فنّي وجماهيريّ. رافقناه في الوثائقي كمرادفٍ للولايات المتحدة الأميركية في مراحلها كافّة. عرف شرارةَ شهرته مع الكساد الأميركي. لعب دوراً في الحرب العالمية الثانية. أرَّخَها السرد. لكنّه يُبقي قطباً مخفية خلال مقاربته ميكي، في الأحداث الهامة، كانعكاس للحلم الأميركي بـ»الأمان والبراءة». يجرّد الشخصية وصانعَها من علاقته بالرؤوس المُخطِّطة والمُسيطِرة. لا يدنو من ميكي كمسحوق لغسيل الوعي والدماغ.

قد يقول البعض إنّ هدف الوثائقي ليس الكشف عن هذه الخبايا بل الاحتفال بميكي. غير أنّ إغفال ذكرها وتأثيرها على مسيرته هو غشٌّ! تدور في دوائر ميكي غايات ورسائل. يحتاج فكّ شيفراتها إلى مجلّدات لا تستثني حياة والت التي أشرقت في الوثائقي كعنوان للعناد والمقاومة. هو مثابر وشغوف، صنع من موهبته مجداً. لكنّ هذه الصفات وحدها تصنع إمبراطورية؟ الظروف السياسية والعلاقات الخاصة تدعم. لم تعرّج ثمانٍ وثمانون دقيقة على علاقة والت بالقيادات الاميركية والحزب الجمهوري ومكتب التحقيقات الفدرالي الذي تدخّل بمحتوى بعض أفلام ديزني.

غابت هذه الإيديولوجيات عن الوثائقي وحضر اعترافٌ بميكي مغايِر. لم يمدّ يديه لاستيعاب واستقبال الجميع. جوانبه الجدليّة السلبية لم تأخذ من عمر الوثائقي إلا دقائق يتيمة مَسَّتْنا. نلمح ضرراً بثّه صانعو ميكي حينها كمعادٍ للنساء وعنصريّ ضدّ أصحاب البشرة الملوّنة. بغصّة، صارحت مؤرّخةُ فنونٍ ذاكرتَها ووجدانَها: «في بعض اللحظات، واضحٌ أنّ ميكي لا يحبّنا جميعاً».

ميكي، الذي أعلنته عصبة الأمم رمزاً للنوايا الحسنة العام 1935، جمع أجيالاً تتنافر أفكارها ونواياها. يشهد كبارٌ وصغارٌ في محكمة حبّهم: يشبّهه أحدهم بـ»النور». آخر يرافقه إلى جلسات العلاج الكيميائي. ثالثٌ يرى أنّ ميكي بنى «ديزني لاند» لتكون مزاراً مُقَدَّساً. بقيت بعض شرايين العلاقة مسدودة أمام معاينتنا لماذا وكيف أشبعَ ميكي حاجاتهم العاطفيّة؟ فسكن لمعةَ عيونهم متوهّجاً وهو يقترب من عامه المئة. ولا تزال ديزني تستحوذ على استثناء يتجدّد للاحتفاظ بحقوق الملكية والنشر الخاصة بهذه الشخصية (رغم أنّ القانون الأميركي ينهي مفعولها بعد 56 سنة).

هذه الأعوام حيّاها الوثائقي. دخل إلى أرشيف ديزني واستوديواتها وغرفها. هنا، ورقة ورقة، تُرسم الشخصيات الكرتونية بقلم الحلم والرصاص. حركة تلو حركة، تصبح رسوماً متحرّكة. تنتقل بعدها إلى عملية التحبير والتلوين (فيلم بيضاء الثلج استلزم تطوير 1500 لون). تُنجَز كلّ شخصية و تُسكب على اللوحة المشهديّة. يأتي تسجيل الصوت بعد تمارين ومحاولات مكثّفة... هو عالمٌ ساحر زادته عدسة Malmberg وهجاً وعطراً. عدسةٌ لوّنت ميكي، غمرَتْه. بعملها الجدّي والمتعب، قالت له: شكراً. إنّنا نحبّك. أخرجَتْه إلينا. أعطانا باقات ملوّنة من غزل البنات والبنين. أمسك يدَنا وسار أمامنا في فيلم خُتم به الوثائقي: «ميكي في دقيقة»، متنقّلاً بين سنواته وأشكاله. تدور دوائره حولنا، كما يدور نجم الطفولة حول كوكب مصّاصة السكر. كوكب لم يقترب الوثائقي من مناجمه السرّية. احتفظ بطعم العمر في دقيقة السّكَر التي استلزمت 1500 رسمة تجسّد 94 عاماً من سنوات تغيّر خلالها ميكي. وتغيّر العالم. وتغيّرنا نحن.



MISS 3