محمد علي مقلد

في نقد 13 نيسان (21)

المجتمع المدني

22 تموز 2023

02 : 00

أتيح لي أن ألتقي موظفاً من أصول عربية في منظمة الأونيسكو في باريس. بحثت معه سبل التعاون مع المجلس الثقافي للبنان الجنوبي. أفادني أنّ بإمكان المنظمة أن تتعاون مع مؤسسات غير حكومية في مجال حماية الآثار. فور عودتي تقدمنا إلى وزارة الداخلية بطلب ترخيص لجمعية تهتم بحماية الآثار في لبنان، أعضاؤها المؤسسون مجموعة من أساتذة الجامعة اللبنانية ذوي الاختصاص.

الإجراءات الروتينية، الأمنية والإدارية تتطلب استقصاءات الأجهزة الحكومية مدة أسابيع للتحقق من نظافة سجلات المؤسسين، لكن جواب الوزارة تأخر كثيراً ليحجب الترخيص في نهاية الأمر عن أصحاب الطلب ويعطيه بعد تسعة أشهر للجنة أخرى ترئسها سيدة هي إبنة مسؤول حكومي وزوجة مسؤول حكومي آخر.

في سجلات وزارة الداخلية مئات التراخيص لجمعيات وأندية ومؤسسات. في غمرة انفجار ثورة 17 تشرين طفت على سطح الأحداث مجموعات حشرت نفسها تحت اسم المجتمع المدني، بعضها اسم على غير مسمى ولا يمثل غير صاحب الصفحة على وسائل التواصل، وبعضها من صناعة أهل السلطة للتشويش على المنظمات غير الحكومية الموجودة قولاً وعملاً ونشاطاً مستمراً على امتداد عقود.

قليلة جداً الجمعيات التي تنأى بنفسها عن العمل السياسي كالصليب الأحمر، وعديدة الجمعيات التي أسسها مسؤولون حكوميون أو استولوا عليها وحولوها إلى مصبات لمزاريب هدر المال العام. عديدة أيضاً جمعيات وأندية يديرها مؤيدون لأحزاب سياسية يسارية ويمينية في السلطة أو في المعارضة، ما جعلها جزءاً عضوياً من اصطفافات الحرب الأهلية من أبرزها اتحاد الكتاب اللبنانيين الذي ظل يسيطر عليه اليسار حتى الطائف ثم ممثلون عن الممانعة بعد الطائف. التدخل الحكومي جعل المنظمات غير الحكومية صورة طبق الأصل عن أهل النظام، ما اقتضى التمييز بين هيئات أهلية وهيئات مدنية. النقابات ذاتها لم تسلم من محاصصة بين أحزاب السلطة وزعماء الطوائف. حتى المؤتمر الذي عقدته هذه الجمعيات في باريس قبيل الطائف لم ينج من انقسام بين شرقية وغربية أو بين مؤيد لنظام الوصاية أو معارض له. دخل الفساد إلى هذا القطاع لا من باب تسييسه وحسب، بل من باب التمويل، وهذا هو الأخطر. ذلك أنّ عدداً كبيراً من الجمعيات فتح باب الارتزاق على «جهات مانحة» في أوروبا خاصة وفي أميركا، أو باب سرقة المال العام باستئجار الأملاك البحرية والنهرية بأسعار رمزية، منتهكاً مبدأ الشفافية والقوانين المرعية في شأن التمويل، فيقدم تقارير مالية مزورة أسوة بتجار الدفترين. شاركت الميليشيات في السلطة غداة الطائف ثم استولت عليها غداة اغتيال رفيق الحريري. اقتدت الجمعيات الأهلية بالميليشيات واستقوت بها وحاولت أن تفعل بالمجتمع المدني ما فعلته الميليشيات بالسلطة. النقابات كانت الضحية الأولى بعد أن توالى على وزارة العمل بالتتابع سياسيون من أهل الممانعة عملوا على استنساخ التجربة السورية في العمل النقابي.

إلغاء المسافة بين الأهلي والمدني سوغ لبعض رجال الدين مشاركة السياسيين بالفساد المالي فحولوا مؤسساتهم إلى منصات ناطقة باسم زعماء الطوائف، تتقاسم وإياهم مصادر المال الحرام من عائدات التهرب الضريبي أو الإعفاءات المنصوص عنها في القانون. بعض المنظمات غير الحكومية نجت من سطوة أهل الحكم بفضل مناقبية القيمين عليها واستمرار حصولهم على تمويل «حلال» ودعم محب وتشجيع غير مشروط. مع ذلك لا بد من ضبط هذا الفلتان في المؤسسات غير الحكومية، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا ضمن الالتزام بأحكام القانون.


MISS 3