د. سعادة الشامي

في ظلّ انحسار الطبقة الوسطى

بوادر تحسّن مضلّلة ولا تضمن الإزدهار

24 تموز 2023

02 : 00

تصوير فضل عيتاني

* يجب ألا نفرط في تعزية أنفسنا، فالوضع المستجد بعيد كل البعد عن أن يكون طبيعياً

* بعض مظاهر «الإنتعاش» مضللة وتنذر بمشاكل وتوترات إجتماعية وسياسية في ما بعد

* إشاعة القول أن الامور تعود إلى طبيعتها تهدف إلى إسقاط برنامج الإصلاح الإقتصادي

* لا بد من الإلتزام بالإصلاح. وحده الإصلاح يضمن النمو والإزدهار الشاملين المستدامين

* هناك من استغل انخفاض الليرة وسداد القروض بتخفيضات كبيرة ليستثمر أو يوسّع أعماله

* تتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء ويتفاقم التفاوت في الدخل والثروة واللامساوة الإجتماعية

* نحن أمام لبنانين: أقلية غنية بحياة فخمة وأغلبية فقيرة تكافح للحصول على الخدمات الأساسية

* هذه الوتيرة المقلقة ستفرغ البلاد من الطبقة الوسطى... أي من العمود الفقري للإقتصاد ونموه

* الطبقة الوسطى ضرورة إقتصادية وسياسية... وهي تقلل التنافر والإحتقان بين شرائح المجتمع

* من دون طبقة وسطى يتفاقم الولاء لزعماء الطوائف وتتعثر الإصلاحات، ويحرم البلد من مواهبه



بدأ التدهور الحاد في الأوضاع الاقتصادية في تشرين الأول 2019 وقد تفاقم لاحقاً نتيجة لتفشّي وباء كورونا المستجد، وانفجار مرفأ بيروت المأسوي، مما أدى إلى انكماش كبير في النمو الاقتصادي، وصل إلى أدنى مستوى له في عام 2021. وفيما يبدو أن النمو ازداد في عام 2022 ويتابع مساره في عام 2023، يجب ألّا نفرط في تعزية أنفسنا بهذه التطورات. إذ بعد الوصول إلى الدرك الأسفل، كان لا بد للنمو أن يتحسن، على الرغم من أنه لا يضمن الانتعاش المستدام ولا الازدهار على المدى الطويل. فـ»الوضع الطبيعي المستجدّ» الذي نحن فيه الآن بعيد كل البعد عن أن يكون طبيعياً.

لا يمكن التثبّت من صحة الإنتعاش

ثمة مؤشرات على حدوث انتعاش اقتصادي، ومع ذلك، لا يمكن تثبيت مدى صحّتها وقياسها في ظلّ غياب إحصاءات رسمية متلائمة. صحيح أنّنا نلاحظ ونسمع - ولو في أجزاء معيّنة من البلاد فقط - عن ازدحام الفنادق والمطاعم، وحركة المرور الكثيفة، وتنامي أنماط الحياة المترفة والفاخرة، وزيادة الإنفاق الاستهلاكي بشكل عام، ومع ذلك، فإن مظاهر الحياة الطبيعية هذه قد تكون مضلّلة وتنذر بمشاكل وتوترات اجتماعية في ما بعد.

وبغض النظر عن هذه التطورات الإيجابية، يجب على صانعي السياسات أن يبقوا حذرين، وألّا يسمحوا لهذه المظاهر التي تبدو طبيعية أن تشعرهم بالرضا عن النفس، بل أن يظلوا ملتزمين بمتابعة عملية الإصلاح التي لا غنى عنها والتي تضمن النمو والازدهار المستدامين والشاملين، لأنّ التلكّؤ عن ذلك سيزيد المخاطر والريبة، بدل أن يُبنى ويُعَوّل على هذه الاتجاهات الإيجابية من أجل مستقبل يُرجى منه خيراً.

النمو الآن ليس شاملاً ولا منصفاً

إن النمو الاقتصادي المتواضع الذي نشهده حالياً ليس شاملاً ولا منصفًا. فقد جرى استغلال انهيار سعر الصرف لصالح الاستثمار في الأعمال التجارية الجديدة والتوسّع في الأعمال القائمة أصلاً، عبر السماح للشركات بالاستفادة من تخفيضات كبيرة على قروضها، سواء عبر تسديدها بالليرة اللبنانية أو بالدولار المحلي. وقد نتج عن ذلك تحويل كبير للثروة من المواطنين اللبنانيين والمودعين العاديين إلى قطاع الأعمال والشركات بشكل عام، فاتّسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتفاقم في ما بينهم التفاوت في الدخل والثروة. علاوة على ذلك، أدى فقدان الثقة في النظام المصرفي المتعثّر إلى إعادة استثمار الأرباح في الاقتصاد بدلاً من إيداعها مرة أخرى في البنوك أو تكديسها في المنازل. علاوة على ذلك، فالتحسن في الأداء الاقتصادي هو في جزء منه موسمي وليس مستداماً. لذلك فالقول ان الأمور عادت الى طبيعتها وانه يمكن الخروج من الأزمة من دون تغيير جوهري في السياسات المتبعة يهدف الى اسقاط برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي الذي وضعناه، ولكن كل ذلك على حساب التدهور الكبير على المدى المتوسط والبعيد.

مؤشرات تنذر بسوء قادم


تظهر هذه التطورات بوضوح توزيعاً غير عادل للدخل يمكن أن ينذر بالسوء في المستقبل. صحيح أن التفاوت في الدخل والثروة لطالما كان من سمات لبنان، لكن عدم المساواة في السياق الحالي عرضة للتفاقم. فوفقاً للاتجاهات الحالية، سينقسم لبنان إلى مجموعتين واضحتيّ المعالم وأمام لبنانين: أقلية صغيرة غنية ذات نمط حياة فخم، مقابل أغلبية فقيرة تكافح من أجل الوصول إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية من تعليم ورعاية صحية وضروريات يومية أخرى. هذه الوتيرة المقلقة ستفرغ البلاد من الطبقة الوسطى التي تعتبر العمود الفقري للاقتصاد.

تقليدياً، تلعب الطبقة الوسطى الدور الرئيسي كمصدر للطلب على الاستهلاك والمحرك الأساسي للنمو الاقتصادي. وفي حين أن إنفاق الأثرياء يدير بشكل أساسي النشاط الاقتصادي حالياً، فإن إمكانات النمو المستدام وزيادة وتيرته ستكون محدودة إذا استمرت الطبقة الوسطى في الانحسار وبحكم عجز الشرائح الأكثر ضعفاً في المجتمع عن الإنفاق. فالطبقة الوسطى لديها «ميل حدّي» أعلى للاستهلاك، مما يعني أنّ من هم من الطبقة الوسطى يميلون إلى الإنفاق أكثر منه إلى الادّخار عندما يزداد دخلهم، وهذا بالتالي يحفّز الطلب، ويدعم الأعمال التجارية، ويعزّز النمو الاقتصادي. وعليه، إذا استمرت الطبقة الوسطى في الانكماش، فسوف سيستقر معدل النمو على مستوى معين، ويتعذّر عندها تحسين وضع الفئات الأكثر ضعفًا، وإعادة البلاد إلى المسار الصحيح.

ضرورة قصوى لطبقة وسطى

إن وجود طبقة وسطى بارزة أمر بالغ الأهمية لمجتمع صحي ومزدهر. إذ تتكون الطبقة الوسطى بشكل أساسي من أخصائيين في مجالات التعليم والصحة والبناء والتكنولوجيا وقطاعات الخدمات الأخرى. حتى وقت قريب، كانت نسبة كبيرة من موظفي القطاع العام تنتمي إلى هذه المجموعة. وتشتهر الطبقة الوسطى بإعطاء الأولوية للتعليم والابتكار وريادة الأعمال. ومع ذلك، فإن عدم المساواة المستمر الناتج عن تفريغ البلاد من الطبقة الوسطى يحدّ من وصول هذه الأخيرة كما الفقراء إلى التعليم وتعزيز مهاراتهم، مما يؤدي في النهاية إلى انخفاض الإنتاجية والنمو.

تشكل الطبقة الوسطى المجموعة الرئيسية لدافعي الضرائب وامداد الموازنة بالإيرادات الضرورية نظراً لحجمها الكبير في أكثر المجتمعات ومصادر دخلها المعروفة. في المقابل، يمكن للشركات والأعمال استغلال الثغرات في النظام وتجنب الضرائب خاصة عندما يكون هناك عيوب ونقص في الالتزام الضريبي. ومع انخفاض قيمة العملة وازدياد التضخم، ستكون الطبقة الوسطى أول من يعاني، حيث لا يمكن تعديل رواتبهم بشكل سريع وكافٍ بما يتناسب وتدهور القوة الشرائية. وهذا ما نشهده اليوم في لبنان حيث يكافح أصحاب الأجور، وخاصة في القطاع العام، لمواجهة الزيادة الكبيرة في غلاء المعيشة.

ستتّسع الفجوة بين اللبنانيين

مع استمرار انحسار الطبقة الوسطى، ستتسع الفجوة بين اللبنانيين، وسوف تتأثر بشدة الخدمات العامة، لا سيّما الخدمات الاجتماعية، التي تعتمد بشكل كبير على الإيرادات الحكومية كما الى تدهور البنية التحتية وهذا كله يؤدي إلى إلحاق الضرر بشكل غير متكافئ بالشرائح ذات الدخل المنخفض مقارنة بالشرائح ذات الدخل المرتفع. وبالتالي، فإن الطبقات المتوسطة والمنخفضة الدخل، التي تعتمد أكثر على هذه الخدمات، ستتأثر بشكل غير متكافئ، بينما يمكن للأثرياء الحفاظ على مستوياتهم المعيشية باستخدام مواردهم الخاصة. كلّ هذا سيؤدي إلى تفاقم عدم المساواة في الدخل.

على الصعيد الإجتماعي

تصلح مجموعة قوية من ذوي الدخل المتوسط لتكون عامل توازن بين الأغنياء والفئات الأكثر هشاشة في المجتمع، وتعزز التماسك الاجتماعي، ممّا يساعد في الحد من التوترات الاجتماعية، ويضمن توزيعاً أكثر إنصافاً للموارد والفرص، ويساهم في تحسين مستويات المعيشة لذوي الدخل المنخفض من خلال زيادة الطلب والنمو والايرادات الحكومية. وحتى المجموعات ذات الدخل المرتفع، فهي تحظى بأسلوب حياة أفضل عندما يتمكن معظم الناس من الحفاظ على مستوى معيشي مقبول، مما يقلّل من خطر التفرقة والتنافر والاحتقان الاجتماعي بين مختلف الشرائح.

على الصعيد السياسي

غالبًا ما ترتبط الطبقة الوسطى القوية بالاستقرار السياسي والتناغم المجتمعي، إذ يتمتع المواطنون من الطبقة الوسطى عموماً بمستوى معقول من الأمن الاقتصادي ممّا يقلّل من احتمال لجوئهم إلى أيديولوجيات متطرفة أو راديكالية أو الانخراط في أنشطة عنيفة. في لبنان، يمكن لطبقة وسطى قوية أن تحدّ من الاعتماد على الزعماء الطائفيين والسياسيين، حيث تقلّ الحاجة إلى نفوذهم. إذ أنّه من دون طبقة وسطى قوية، سيبقى الولاء لزعماء الطوائف سيّد الموقف، مما يعيق الإصلاحات السياسية والاقتصادية ويحرم البلد من المؤسسات الجيدة المطلوبة لتسخير المواهب اللبنانية الوفيرة وتعزيز الرخاء.

في الختام

إن مظاهر الحياة الطبيعية الحالية في لبنان مضلّلة، وتخفي في باطنها توترات اجتماعية وتفاوتاً في الدخل. وبما أنّ تعزيز الطبقة الوسطى أمر بالغ الأهمية لمجتمع مستقر واقتصاد مزدهر، يجب على صانعي السياسات إعطاء الأولوية للإصلاحات العادلة لتضييق الفجوة بين الفئات المختلفة وتعزيز طبقة وسطى قوية يمكنها أن تدفع بالنمو المستدام والشامل وترتقي بالبلد بأكمله الى وضع أفضل. أمّا إذا لم يتحقق هذا الشيء فهذا قد ينذر بمستقبل محفوف بالمخاطر.

(*) نائب رئيس حكومة تصريف الأعمال


MISS 3